أحكام الدين وأحكام الدنيا في الفكر الإسلامي
لعل عنوان هذه الحلقة لايعبر عن حقيقة القضية التي أريد تناولها ، ولا يعكس أبعادها وأهميتها ، على نحو ما أعنيه . وذلك راجع إلى كون قضيتنا هذه ، ليست مطروقة على النحو المركب الجامع ، الذي أريد بيانه الآن . وفي إشارات سريعة إلى بعض مضامين القضية وتجلياتها ، يمكن أن أذكر من مشمولاتها:
ـ علاقة ما هو ديني بما هو دنيوي ، والفرق بينهما في التشريع الإسلامي
ـ الثابت والمتغير في التشريع الإسلامي ،
ـ علاقة الدين بالسياسة ،
ـ علاقة الدين بالدولة .
ـ وهنا تدخل القضية الحديثة والحداثية : العلمانية وفصل الدين عن الدولة.
في أدبيات الفكر الإسلامي الحديث ، يتردد بقوة وحسم : كل ما هو دنيوي فهو ديني ، وكل شؤون الدولة تدخل في الدين ، ولا فرق بين أحكام الصلاة والصوم ، وأحكام السياسة والحكم ، وأحكام الله ثابتة لا تتغير، والعلمانية كفر أو أخت الكفر …
وهذه المقولات كلها تحتاج إلى تحرير وتدقيق.
وأماالفكر الإسلامي القديم ، فرغم أنه لم يعالج هذه القضية في أصولها وشموليتها ، إلا أنه أقرب إلى الدقة والاعتدال في مقاربة عناصرها ، من الفكر الإسلامي الحديث ، المتسم بالتوتر ورد الفعل، ضد التوجه العلماني المتغرب ، الذي سيطر أصحابه على مقاليد الأمور في عامة البلدان الإسلامية.
لقد عبر العلماء القدماء ـ وخاصة منهم الفقهاء ـ عن عناصر هذه القضية بعدة تقسيمات ثنائية لأحكام الدين وشريعته ، تدل في مجملها على وجوه من التمييز والتفريق ، بين صنف وصنف ، ومجال ومجال، وخصائص وخصائص. مع أن الجميع عندهم دين وشرع . وفيما يلي عرض سريع لبعض العناصر والمصطلحات التي عبر من خلالها المتقدمون عن جوانب من هذه القضية ، قبل أن أعود للنظر في دلالاتها الإجمالية .
- التمييز بين ما هو ديني وما هو دنيوي
لقد دأب العلماء على التعبير بمثل هذه الصيغ الثناءية : الدين والدنيا ، مصالح الدين ومصالح الدنيا ، المصالح الدينية والمصالح الدنيوية ، كما في قول الإمام الغزالي : ” وأحكام الخلافة والقضاء والسياسات ، بل أكثر أحكام الفقه ، مقصودها حفظ مصالح الدنيا ، ليتم بها مصالح الدين” [1]
وكما في قول الإمام الشاطبي: ” المصالح الدينية مقدمة على المصالح الدنيوية على الإطلاق”[2]
وكما في قول الفقيه الحنفي الكبير شمس الدين السرخسي ، عن عقد الزواج : ” يتعلق بهذا العقد أنواع من المصالح الدينية والدنيوية “[3]
وللفقيه الشافعي المفكر أبي الحسن الماوردي كتاب نفيس سماه (أدب الدنيا والدين ) ، قال في بدايته ” وأَعظم الأمور خطرا وقدرا وأَعمُّها نفعا ورِفْدًا ما استقام به الدِّين والدنيا”
- الضروريات الخمس: دين ودنيا
والضروريات الخمس هي المصالح الكبرى ، التي عليها مدار الشريعة وسائر الشرائع المنزلة . ٍوهي ـ للتذكير ـ : الدين ، والنفس ، والعقل ، والنسل ، والمال.
فها هنا أيضا نلاحظ أن العلماء ميزوا بين الدين وغيره من الضروريات الأخرى ، مع أن تلك الضروريات كلها يمكن إدراجها في حفظ الدين ، لأن أحكامه ورعايته تتضمن حفظها . ولكنهم عَنَوْا بالدين هنا : ما يشمل العقائد والعبادات والأخلاق الإيمانية، ثم وزعوا ما سوى ذلك من أحكام الشريعة على ضروريات ومصالح أخرى غير الدين.
- تقسيم الشريعة إلى عبادات وغيرها
جرى كافة الفقهاء والمذاهب الفقهية على تقسيم أحكام الشريعة والفقه الإسلامي ، إلى أبواب تشريعية كثيرة مختلفة. غير أن الثابت في هذه الأبواب، هو التمييز بين العبادات ، وغير العبادات ( من معاملات، وعادات، ، وأنكحة ، وجنايات …). وحينما يختصرون ذكر الأبواب ، يقولون : عبادات وعادات ، أو عبادات ومعاملات. المهم أن هناك ـ دائما ـ قسم للعبادات ، وقسم أو أقسام لما سوى العبادات . والتقسيم هنا ليس مجرد تبويب وتصنيف فني، بل هو يتضمن تفريقا واعيا بين أحكام العبادات ، وأحكام غيرها من الأبواب التشريعية. بل إن الفقهاء والأصوليين كثيرا ما يصرحون ويوضحون الخصائص التشريعية ، التي تفرق بين العبادات والعادات، أذكر من ذلك :
أ ـ أن أحكام العبادات قائمة على التعبد والتوقيف ، بغض النظر عن مقاصدها وحكَمها، وأن أحكام العبادات قائمة على المعقولية والتعليل ، كما قال الغزالي:“ أغلب عادات الشرع في غير العبادات اتباع المناسبات والمصالح ، دون التحكمات الجامدة”[4]
وقال الشاطبي : الأصل فى العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الإلتفات إلى المعانى[5]
وأصل العادات الإلتفات إلى المعاني
أما الأول فيدل عليه أمور:
منها الإستقراء ؛ فإنا وجدنا الطهارة تتعدى محل موجبها وكذلك الصلوات خصت بأفعال مخصوصة على هيآت مخصوصة إن خرجت عنها لم تكن عبادات …
وأما أن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني ، فلأمور:
أولها الاستقراء فإنا وجدنا الشارع قاصداً لمصالح العباد ، والأحكامُ العادية تدور معه حيثما دار ، فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة ، فإذا كان فيه مصلحة جاز…”[6]
ب ـ ما تقدم من القول بالمعقولية والتعليل ، يفسح الباب أمام إعمال القياس والاستحسان والاستصلاح ، ودوران الأحكام مع عللها وجودا وعدما، وذلك في أبواب العادات والمعاملات دون العبادات.
ج ـ أن الأصل في العبادات هو الحظر. فلا عبادة ، ولا زيادة ولا تغيير في العبادة ، إلا بنص. وأما العادات والمعاملات ، فالأصل فيها الإباحة ، ولا حظر إلا بنص .
- حقوق الله وحقوق العباد
وهذا وجه آخر من وجوه التمييز بين صنفين من الأحكام والتكاليف الشرعية. وبغض النظر عن تعريفات الفقهاء والأصوليين ، لكل من حقوق الله وحقوق العباد ، ومعاييرهم في التمييز بين الصنفين ، فإن حقوق الله تمثل الأحكام الأساسية الضامنة لأركان الدين وأركان المجتمع، وحقوق العباد تمثل المصالح الحاجية للأفراد والجماعات . وأهم معيار متداول للتعريف والتمييز ، هو أن حقوق الله هي ما لا يقبل التغيير ولا الإسقاط ، وأن حقوق العباد هي ما يحق لهم التصرف فيه أوإسقاطه والتنازل عنه.
وعموما ، فإن هذا التقسيم يشير إلى وجود صنفين ، يتميز أحدهما بالثبات والاستقرار، ويتميز الآخر بالمرونة والقابلية للتصرف والتعديل.
- تصرفات الرسول بالرسالة وتصرفاته بالإمامة
ميز عدد من العلماء ـ قديما وحديثا ـ بين أصناف من التصرفات (الأفعال والأقوال) التي صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأهمها صنفان :
أ ـ الصنف الأول : ما صدر عنه بصفته نبيا رسولا عن الله تعالى، وهو في هذه الحالة يبلغ الوحي وينفذه ، يبلغ الرسالة ويؤدي الأمانة.
ب ـ الصنف الثاني : ما صدر عنه بصفته إماما ـ أي رئيسا ـ لجماعة المسلمين ولدولتهم . وهو في هذه الحالة يقوم بما يتطلبه منصبه السياسي والاجتماعي، ويقدم اجتهادات وحلولا وتدابير، مفصلة ومقدرة ، بحسب مقتضيات الزمان والمكان والحال.
وهنا أيضا تتميز أحكام الصنف الأول باللزوم والدوام (أي بالصفة التشريعية الدينية) ، وتتميز أحكام الصنف الثاني بالظرفية والزمنية(أي بالصفة الاجتهادية السياسية[7]). وهذا الصنف الثاني ينبغي أن يستفاد منه ، من منهجه وحكمته، ولكن لا ينبغي الالتزام بتفاصيله وحذافيره.
- الأحكام الشرعية والسياسة الشرعية
والتفريق بين الأحكام الشرعية والسياسة الشرعية ، هو ترجمة وامتداد لما سبق من التفريق بين التصرفات النبوية بالرسالة ، وبالإمامة.
فالأحكام الشرعية ، هي تقرير واستنباط وبيان ، لما بلغه ونفذه عليه السلام ، من أحكام الشريعة المنزلة .وأماالسياسة الشرعية ، فهي اقتداء وامتداد ومواصلة ، للتصرفات النبوية الصادرة بمقتضى الإمامة والسياسة.
ما يعنيني الآن هو أن هذا التمييز بين (أحكام شرعية)، و(سياسة شرعية) ، يعطينا أيضا صنفين من الأحكام والمقتضيات ، كلاهما شرعي ونابع من الشرع ، ولكن أحدهما يمتاز بطابع الحسم التشريعي المستقر والمنضبط ، والآخر يمتاز بسعته ومرونته وقابليته للتغيير والتكييف ، مع تعدد الاختيارات فيه.
قال ابن القيم رحمه الله:”وجرت في ذلك[8] مناظرة بين أبي الوفاء ابن عقيل[9] وبين بعض الفقهاء ، فقال ابن عقيل : العمل بالسياسة هو الحزم ، ولا يخلو منه إمام ، وقال الآخر : لا سياسة إلا ما وافق الشرعَ ، فقال ابن عقيل : السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد ، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي ؛ فإن أردت بقولك ” لا سياسة إلا ما وافق الشرع” ، أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح ، وإن أردت ما نطق به الشرع فـغلط وتغليط للصحابة …”[10]
وخلاصة القضية ونتيجتها : أن النظر والاجتهاد في أحكام الشريعة ومقتضياتها ، لا بد فيه من التمييز بين القضايا والمجالات . فليست كلها محكومة ومَسُوسة بنمط واحد وضوابط موحدة . وإذا كان للدين وشريعته تدخل وحكم وتوجيه ، في كل مناحي الحياة ، فإن الأحكام والقواعد والخصائص ليست واحدة في كل المناحي والمجالات.
- فهناك مجالات نزلت فيها أحكام مفصلة ومكثفة ، وغير قابلة للزيادة أو النقصان، كالمعتقدات والعبادات والأخلاق.
- وهناك مجالات فيها قدر من الأحكام المفصلة الثابتة ، وفيها أيضا متغيرات تراعَى فيها الأعراف والأحوال، وفق قيم وضوابط عامة ، وتدخل هنا أحكام الأسرة والجنايات والمعاملات المالية.
- وهناك مجالات ليس فيها سوى مبادئ وقواعد ومقاصد، وتبقى مساحة الاجتهاد والاختيار، والتعديل والتطوير شاسعة فسيحة. وهذا ينطبق أكثر ما ينطبق على مجال الحكم والسياسة. ولنا فيه وقفات آتية إن شاء الله تعالى.
[1] إحياء علوم الدين 1/ 455.
[2] الموافقات 2 /370
[3] المبسوط ، أول كتاب النكاح
[4] المستصفى1 / 314
[5] المقصود بالمعاني : العلل والاعتبارات المصلحية للحكم الشرعي
[6] الموافقات 2/ 300 ـ 305
[7] بالمعنى اللغوي الواسع للاجتهاد والسياسة ، لا بالمعنى اصطلاحي المضيق للكلمتين.
[8] أي في مفهوم السياسة الشرعية
[9] الفقيه الحنبلي الكبيرـ توفي 513هـ
[10] أعلام الموقعين : 6 / 26