أَسَاسُ نَهضتنِاَ وَ سِرُّ قُوَّتنِاَ 3
تفاعل الحضارات وتأثير بعضها البعض الآخر يعتمد على عدة عوامل، من أهمها:
1) قوة الحضارة ودرجة مساهمتها في الواقع
وهذا نلاحظه ونشاهده عيانا، فالضعيف يقلد القوي، ويحب أن يكون مثله، وهذا مضطرد على مر التاريخ، فعندما كان العرب والمسلمون هم الأقوياء، والذين يملكون عناصر القوة الحضارية كان الغرب والشرق يتطلع إليهم، ويحاول تقليدهم، ومن أمثلة ذلك:
• في سنة 890م حين أراد أذفونش (ألفونسو) الكبير أن ينتدب مؤدبًا لابنه وولي عهده، فاستدعى اثنين من مسلمي قرطبة حرصا على تهذيبه، إذ لم يجد في النصارى إذ ذاك كفؤًا لهذه المهمَّة
• وفي هذا الإطار يستشهد جوستاف لوبون بالخطِّ العربي فيقول: «وقد بلغ الخط العربي من الصلاح للزينة ما كان رجال الفنِّ من النصارى في القرون الوسطى وفي عصر النهضة يُكثرون من استنساخ ما كان يقع تحت أيديهم اتِّفَاقًا من قطع الكتابات العربية على المباني المسيحية تزيينًا لها، سائرين في ذلك مع الهوى.
• وتوجهت بعثه من فرنسا برئاسة الأميرة (إليزابيث) ابنة خال الملك لويس السادس ملك فرنسا. وبعث فيليب ملك بافاريا إلى الخليفة هشام المؤيد (366 – 399 هـ /976-1009 مـ) بكتاب يطلب منه ان يأذن له بإرسال بعثة من بلاده إلى الأندلس للاطلاع على مظاهر التقدم الحضاري فيها والاستفادة منها، فوافق الخليفة هشام.
• وفي الوقت نفسه قام بعض ملوك أوربا باستقدام علماء الأندلس لتأسيس المدارس ونشر ألوية العلم والعمران، ففي خلال القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي وما بعده وّقعت حكومات هولندة وسكسونيا وانكلترا على عقود مع حوالي تسعين من الأساتذة العرب في الأندلس بمختلف العلوم، وقد اختير هؤلاء من بين أشهر العلماء الذين كانوا يحسنون اللغتين الاسبانية واللاتينية إلى جانب اللغة العربية.
2) قوة الفكرة والمنهج وتمثله في واقع حامليه
فقد انتشر الإسلام في مناطق كثيرة لم يصل إليها الفتح الإسلامي، وذلك عن طريق التجار والدعاة الذين انتشروا في البلدان، هذا فضلا عن الأثر الذي تركه الفاتحون من حسن معاملتهم، وجميل معشرهم، وما أظهروه من العدل وإعطاء الحقوق، مما كان سببا في إسلام الكثيرين من أبناء البلدان المفتوحة.
3) وسائل الاتصال والتواصل
لا شك أن ما نراه اليوم من تأثير سريع في انتقال المعلومات والأفكار نتيجة لسرعة التواصل وتوفر وسائل الاتصال ما لا يخفى على أحد، وسيظل هذا العامل عاملا مساعدا لما سبقه من العوامل، فهي التي لها الأثر الأكبر، وهذا العامل يعتبر عاملا مساعدا لمن يحسن استعماله.
نذكر هذا الكلام لندرك أننا لسنا وحدنا في هذا العالم، وأن التأثير والتأثر متبادل، ومن يملك عناصر القوة هو المؤثر، وغيره سيتأثر به، ولذلك من الضروري أن ننتبه لذلك حتى لا نقع في دائرة المفعول به وليس في دائرة الفاعل، ولن نكون في دائرة الفاعل إلا إذا امتلكنا العنصرين الأولين، وأحسنا استعمال الثالث.
كذلك لابد أن نتبه لأنفسنا، ودرجة تأثرنا بما حولنا، فلا تضيع منا ثوابتنا، وقواعد انطلاقنا، وسبب وجودنا، فنأخذ من المحيط ما يفيدنا، ولا يتعارض من مبادئ ديننا، ولا يناقض قيمنا الاجتماعية، ولا عاداتنا التي تعبر عن هويتنا الوطنية، وهي في الأصل مستمدة من ديننا وبيئتنا. وإذا تساهلنا في هذا الأمر فقدنا هويتنا وتلاشت معالم شخصيتنا وعناصر تميزنا، والذي ينظر الى الشرق الآسيوي من اليابان والصين والهند يجد كيف حافظوا على هويتهم الوطنية مع تقدمهم العلمي وتميزهم في عالم التقنية والاختراعات، فكيف بنا ونحن ننطلق من قيم ربانية وتعاليم سماوية، لخير دين أنزل، وأفضل رسول بُعِثَ للناس جميعا.
فالحذر الحذر، وليكن شعارنا ” نأخذ من كل قوم أحسن ما عندهم، ولا تتعارض مع ديننا وهويتنا”، ونسعى في الوقت نفسه إلى امتلاك عناصر التقدم والبناء والتطور، ونكون على الطريق الى سيادة الناس وقيادة البشرية كما كنا، وَیَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَۖ قُلۡ عَسَىٰۤ أَن یَكُونَ قَرِیباً