مقالاتمقالات الرأيمقالات فكرية

الإمام الشافعي بين الفقه والفن

د. محمد الصغير الأمين العام للهيئة العالمية لنصرة نبي الإسلام ، عضو مجلس الأمناء بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

كتب الأستاذ العلّامة محمد أبو زهرة سلسلة كتب عن الأئمة الأعلام، في مقدمتهم الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبوعة، ولما سئل الشيخ محمد الغزالي صاحب البيان السهل الممتنع، والقلم السيال الممتع، لماذا لم تكتب عن الأئمة وقد كتب عنهم أبو زهرة؟ فقال لا يكتب عن الأئمة إلا إمام!

هذا حال الشيخ محمد الغزالي الملقب بأديب الدعوة وفارس الكلمة، مع أئمة المسلمين القدامى والمحدثين، حيث يرى أن خوض غمار التأريخ والتأليف عن الأئمة، لا يتأتى إلا لمن سلك دربهم وعرف مسالكهم، وارتقى درجات سلم الوصول الذي حازوا به السبق والفضل.

استحضرت ذلك وأنا أتابع النقاش الدائر حول مسلسل الإمام الشافعي، الذي يذيعه الإعلام المصري، وما حمله في طياته من طوام، أظهرت العمل وكأنه أعد لتشويه التاريخ وتغيير الحقائق، وإلا ففي أي إطار يفهم حديث من يقوم بدور الشافعي باللهجة العامية الحالية؟ وتجري على لسانه تعبيرات من الدارجة المصرية الشعبية، ناهيك من المغالطات التاريخية في حوادث مشهورة ووقائع معلومة مثل تبني المأمون فكر المعتزلة، وامتحان الناس في قضية خلق القرآن، وكل ذلك حدث بعد وفاة الشافعي بزمان، وزاد الطين بلة، وكشف قلة التحقيق وانعدام التدقيق، جريان أبيات على لسان شافعي المسلسل، على أنها من شعره، وهي لشاعر سوري معاصر يدعى حذيفة العرجي، الذي عدَّ أن ما حصل يدل على جهل فظيع من صناع العمل بهذا الإمام الجليل وبلغته الشعرية.

وحاول أصحاب المسلسل تبرير ما وقعوا فيه بأنه من دواعي الحبكة، ليخرج العمل في صورة درامية مشوقة، وأن هذا متبع في الأعمال الفنية كلها، وفاتهم أن الحبكة غير السرقة، وإن لم تكن سرقة فهي عين الغفلة، ودلالة واضحة على عدم الإلمام بجوانب الشخصية، لأن الإمام الشافعي لو لم يكن فقيهًا لكان في مقدمة الشعراء، ومع انشغاله بالفقه عن الشعر ومنسوب إليه:

وَلَولا الشِعرُ بِالعُلَماءِ يُزري…

لَكُنتُ اليَومَ أَشعَرَ مِن لَبيدِ.

إلا أنه ترك ديوانًا شعريًا جمع في 600 صفحة.

إن تناول حياة إمام مجدد، يتبع مذهبه الملايين، وتدور وقائع أيامه حول الفقه والفتوى والاجتهاد والاستنباط، حتى أرسى قواعد علم جديد ينسب إليه ويعرف به هو علم أصول الفقه، لا يمكن أن يوكل ذلك كله لمجموعة من الهواة، لأن ما يتعلق بحياته من قضايا كُبَر لا يتأتى أن يضطلع بها من لا يقيم جملة صحيحة، ولا يعرف اللغة الفصيحة، ولا يؤتمن على حفنة بقل.

إن أقوال الإمام الشافعي وكلماته، فتاوى فقهية واجتهادات أصولية، لا يسمح بالزيادة فيها أو الحذف منها، حتى ما تغير فيه اجتهاده حفظه تلامذته، ونقله لنا رواة المذهب وأساتذته، فيما عرف بروايتي الشافعي في القديم والحديث.

إن الدول التي لها مشاريع واضحة، تستخدم التمثيل لحفظ التاريخ وربط الحاضر بالغابر، وتقديم القدوات الصالحة، التي تملأ عقول الناشئة بأمجاد الأجداد، وتحضهم على الحفاظ على الموروث، والعمل على استكمال ما بدأه الأوائل، لذا كانت الجناية على الأمة كلها في تقديم أحد أبرز أعلامها في صورة مسخ مشوه.

إن سيرة الإمام الشافعي وتقديمها ينبغي أن ينبري لها أفذاذ الأمة، كل في مجاله وفيما يحسنه، ليس فقط لأنه رابع فقهاء الأمة، بل وهو واسطة العقد بينهم، واجتمع له ما لم يجتمع لغيره، فهو تلميذ مالك بن أنس إمام دار أهل الهجرة، وأستاذ الإمام المبجل أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، وولد في عام 150 هجرية أي في العام نفسه لوفاة الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، وكان مولده في غزة أو عسقلان، واشتهر بالشافعي، واسمه محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي المطلبي، وكان أبوه قد هاجر من مكة إلى فلسطين بحثًا عن الرزق، لكنه مات بعد ولادة محمد بمدة قصيرة، فنشأ محمد يتيمًا فقيرًا، وشافع بن السائب هو الذي ينتسب إليه الشافعي لقي النبي صلى الله عليه وسلم، ويلتقي نسبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف، وأم الشافعي يمانية من الأزد، وقد رجعت به إلى مكة ليتعلم فيها، ثم انتقلوا إلى المدينة النبوية، ليأخذ عن عالمها مالك بن أنس الذي تفرس فيه النجابة حين رآه، وقال له اتق الله يا محمد، فإنه سيكون لك شأن، وكان قد حفظ القرآن الكريم في سن السابعة، وحفظ كتاب موطأ مالك في الثالثة عشرة من عمره، وقد أثنى عليه العلماء ثناءً عظيمًا، قال عنه الإمام أحمد بن حنبل: “ما أحد مس بيده محبرة ولا قلمًا إلا وللشافعي في رقبته منة، ولولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث، وكان الفقه مقفلًا على أهله حتى فتحه الله بالشافعي”.

وقال أيضًا عندما سأله ابنه، فقال له: يا أبت أي رجل كان الشافعي؟ سمعتك تكثر الدعاء له، فقال: يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للبدن، فانظر هل لهذين من خلف أو عوض؟

وكان أحمد بن حنبل يدعو له في صلاته نحوًا من أربعين سنة، وكان يقول في الحديث الذي رواه أبو داود مِن حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ اللهَ يَبعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأسِ كُلِّ مِئَةِ سَنَةٍ مَن يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا” قال: فعمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى، والشافعي على رأس المائة الثانية.

وفي الختام رحم الله الشيخ الإمام ، وكما يأتي الخير من الشر، فقد فتح هذا المسلسل القاصر، بابًا للحديث عن الإمام الشافعي وبيان سيرته ومسيرته، ومناقبه ومذهبه، وعلى ذكر مناقبه فإني وجدت أكثر من 70 مؤلفًا تحمل عنوان مناقب الشافعي أو فضائله، كتبها أئمة المسلمين المتقدمين كالإمام البيهقي والفخر الرازي، ولا أحصي ما كتبه المعاصرون، ولا أخال أن صناع المسلسل اطلعوا على شيء من ذلك، أو سمعوا عنه، وهنا يأتي دور الأزهر الشريف، ومجمع البحوث الإسلامية والغيورين من المحامين لإيقاف هذا العبث بالتاريخ، وتشويه صورة المصلحين.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى