بقلم: الشيخ محمد البشير الإبراهيمي-
عندنا جملة وجدت منذ وجد البشر ولم يختلف العقلاء في فهم مؤداها وهي من أفذاذ الجمل الجامعة ومن القضايا المعقولة التي تطابق العقل والدين على تصديقها واعتبارها من البديهيات المسلمة من حيث الجملة وإن اختلفا في تفصيلها. ونرى كثيرا من جزئيات الأديان السماوية راجعة إليها ومبنية عليها.
اختلف تعبير اللغات عن تلك الجملة ومآلها إلى وفاق في المعنى وترجمتها في لغتنا “الإنسان أخو الإنسان”، فهذه الجملة على قلة ألفاظها ترمي إلى معنى لو ذهب أبلغ الناس إلى تحليله وشرحه لانتهى إلى العجز ووقف دون الوصول إلى المقصود.
مؤذى هذه الجملة الصريح عقد الأخوة بين أفراد البشر بموجب الإنسانية التي هي حقيقة سارية في كل فرد.
ومقتضى هذه الأخوة أن يشارك الإنسان الإنسان في جميع لوازم الحياة سرورا وحزنا لذة وألما مشاركة معقولة تنتهي إلى حدود لا تتعداها، بحيث يعلم العالم الجاهل ويرشد النبيه الغافل ويواسي الغني الفقير ويقع التعاون المتبادل بين الناس في كل جليل وحقير.
ومن مقتضى هذه الأخوة المساواة في الحقوق البشرية العامة، تلك المسألة التي طالما بذل فلاسفة الأمم قواهم لتقريرها وتمكين دعائمها في الكون، وعملت الشرائع على تنميتها وتغذيتها بالمبادئ الصحيحة حرصا على راحة البشر وهناء الإنسانية.
من مقتضى هذه الأخوة إلغاء سنة التمايز والاستئثار التي سنها المستبدون في القرون الخالية وكانت سلاحا مهولا في وجه الحق.
تفاوتت الأمم على اختلاف الأطوار والأجيال في فهم هذه الحقيقة أولا والعمل بها ثانيا، وكان اختلافهم يرجع إلى سببين ذهبا بفريقين من الناس إلى سوء المصير فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل.
السبب الأول نزعة الاستئثار الطبيعية التي نشأ عنها الاستبداد الفردي والشعبي، والاستبداد شر ما سيست به الأمم وهو الذي طوح الإنسانية في مهاوي الشقاء. وقد مضى الاستبداد غير مأسوف عليه ولكنه أنتج في العالم نتاج سوء وأثمر ثمرا مرا، ذلك النتاج هو ثاني السببين. ذلك النتاج هو الإباحية الخاطئة الكاذبة التي أصبحت تتهدد الإنسانية بما هو شر من الاستبداد، ذلك النتاج الذي قرر مزدك الفارسي تعاليمه الفاسدة، فكان كمن حلل السم أو نفث الغازات في الهواء والماء العنصرين المقومين للحياة، فلا كان مزدك ولا كانت تعاليمه.
والسبب الحقيقي لهذا البلاء المتناسل هو تحكيم الهوى على العقل. وأهواء النفوس إذا غلبت غطت على الحقائق وأحالت النور ظلاما واليقين وهما والحق باطلا.
ليس من غرضنا أن نقض على مسامعكم تاريخ هذه المسألة وتفريعاتها وأطوارها وقسط كل أمة منها، فذلك ما لا يسعه المقام.
وإنما نشير إلى الطور الذي وصلت إليه المسألة في وقتنا الحاضر وما يتصل به لنبني عليه غرضنا من تأسيس الجمعيات. والذي تسمعونه مني إنما هو حقائق تاريخية معجونة بفكري الخاص وأرجو أن أكون موفقا في الرأي.
لا ننكر أن مسألة تآخي البشر لم تأخذ حقها من التطبيق تمام الأخذ إلى الآن ولم يعمل بمقتضياتها التي أشرنا إليها تمام العمل إلى الآن. وإنما يمتاز عصرنا الحاضر بترقي العلوم والصنائع والتوسع في متممات العمران وكمالياته والاطلاع على حقائق الكون ومخبآته، واستثمار مواهب الطبيعة وخيراتها، ونشأ عن ذلك ترق في الأفكار وشعور عام لجميع الطبقات على تفاوت بمقدار التعلق بالعلوم، ونشأ عن ذلك التفاوت رجوع إلى نزعة الاستئثار والامتياز فنشأ عن ذلك الإكباب على الماديات والمسابقة في ميدانها. فنشأ عن ذلك شعور المقصر بقصوره، فنشأ عن ذلك تدافع واختلاف في المصالح، فنشأ عن ذلك احتكاك واتصال بين الأمم المتباعدة يسرته سهولة المواصلات التي هي من ثمرات العلم.
ونشأ عن ذلك كله وعن هذه المصارعات الاجتماعية شعور آخر بضرورة تآخي البشر وآل الخلاف إلى وفاق والتباعد إلى تقرب والفوضى إلى هدوء وسلام.
لا نقول إن المسألة استقرت في نصابها وإنما نقول: إنها تنمو على الأيام شيئا فشيئا وإنها سائرة إلى الأمام، ودعاة السلام من كل أمة والعلماء منهم والفلاسفة قائمون عليها بالدعوة إليها ونشرها، وما دام الحال على ما نرى فلا شك في وصولها إلى الأمد المرجو.
دخلت هذه المسألة في الطور الذي ذكرناه من اليوم الذي ولدت فيه النهضة العلمية الجديدة، فهي مصاحبة للعلم في سيره وتابعة له في أطواره، لكنها بقيت مدة من الزمن وهي نظرية في أذهان المفكرين حتى تقوَّت الدواعي على إبرازها لميدان العمل. وهي أول خطوة خطتها للأمام وأول بشارة للقائمين على هذه المسألة والمتتبعين لحركتها- بحياتها ووصولها يوما ما إلى الدرجة المطلوبة من الكمال. ومن رأيي الخاص أن الوصول إلى هذه الغاية ممكن ولكنه بعيد.
من الدلائل على نمو هذه الحركة وحياتها تأسيس الجمعيات من عهد غير بعيد لمساعدة المنكوبين في هذه الحياة بلا ميز بين الجنسيات والأديان.
أُسّست الجمعيات العلمية لإنقاذ البشر من نكبة الجهل، ولا مصيبة أكبر من الجهل، ولا مرض أفتك منه.
أُسّست الجمعيات الطبية لإنقاذ البشر من الأمراض التي هي آفة الإنسانية.
أُسّست الجمعيات المالية لإنقاذ البشر من داهية الفقر الذي مآله إتلاف هذا النوع بل هو الجائحة الكبرى للإنسانية وهو منبع الشرور والفظائع.
أُسّست الجمعيات الصناعية وهي عبارة عن معامل تخرج آلات لمحاربة الفقر.
أُسّست الجمعيات الرياضية وهي خادمة للبشر مادة ومعنى وعامل على ترقيته روحا وجسما.
أُسّست الجمعيات الأدبية، وهي نصيرة الحقائق وعدوة الأوهام والخرافات، هذه الجمعيات التي ذكرتها لكم وهي قليل من كثير، كانت من أكبر العوامل في تآخي البشر وتقرب الشعوب من بعضها ومن أقوى الأسباب في غلبة الاتصال على الانفصال، والتعارف على التناكر والوفاق على الخلاف والاجتماع على الافتراق، بل تغلب العلم على الجهل والحق على الباطل والفضيلة على الرذيلة.
* الشهاب، الجزء الثامن، المجلد الخامس، سبتمبر1929، ص: 11.