التعميم في الأحكام….آفة تأزم المجتمعات
فرحات الهوني
تعميم الأحكام على الناس، سواء كانوا قبيلة أو مجتمعًا أو بلدًا أو مدينة أو مؤسسة أو فكرًا، فهذا يعتبر خلقًا مذمومًا، ولا يصح تعميم بسبب خطأ أو هفوة أو سوء تصرف ارتكبه أحد الأفراد الذين ينتمون إليها، أو كانوا ينتمون إليها، أو محملين عليها، هذا التعميم لا يقبل شرعًا ولا عقلاً ولا أخلاقًا.
تعميم الأحكام يؤدي دائمًا إلى حكم خاطئ على الأشخاص، وعلى الأشياء، ويمكن أن يؤدي إلى خلق انطباعات زائفة، لكن يصعب تغييرها.
تقول الدكتورة نادية بدرانة في مقالها ظاهرة التعميم:
“هي واحدة من الظواهر السلبية الشائعة في مجتمعنا العربي، والتي تُشكل خطورة على ثقافته ورقيه وحضارته، لذا نتطلع جميعا إلى العمل لمحاربتها والقضاء عليها. والتعميم هو ظاهرة تُستعمل في الغالب للحكم على الأشخاص والأشياء، الأفكار، على المجتمعات والدول بما فيها من أمور سياسية واجتماعية واقتصادية وغير ذلك. وهذا الحكم هو ذاتي يُعبر عن وجهة نظر فردية تُفرز قرارًا بدون دليل أو برهان، لا يستند على أدوات قياس علمية وموضوعية.
إن تعميم المواضيع والسلوكيات السلبية بدلا من نسبها إلى الشخص الذي ارتكبها، أو إلى المجتمع الذي برزت الحالة فيه، إنما يدل على طريقة تفكير خاطئة وقصر نظر وقلة خبرة بالأمور وبالحياة وبالأشخاص، وعدم الوعي بعواقب هذه الأفعال وتأثيرها السلبي في نفسية الآخرين ومجرى حياتهم. مخالفة القيم الإنسانية والوصايا الإلهية بقول الله تعالى: “ولا تزر وازرة وزر أخرى” و”كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ”.
بنظرة تحليلية إلى ظاهرة التعميم نجد بإن لها تداعيات عديدة مجحفة تلحق الأذى الكثير بكل الأطراف، ولهذا فقد علمنا القرآن الكريم ألا نحكم بالتعميم حتى على من خالفك في العقيدة مثل أهل الكتاب، فقال تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً ۗ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) [سورة آل عمران 113]، وعند الحديث عن أهل الكتاب أو غيرهم يستخدم في لفظ (وإن منهم) أو حرف (من) وهو للتبعيض ولا يعمم، قال تعالى: (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [سورة البقرة 146]، وقال (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ) [سورة آل عمران 78]، وقد مدح بعضهم وذم بعضهم، فقال: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْك} [آل عمران:75].
ومع المنافقين نجد الأسلوب نفسه في الحكم، فلم يصنفهم درجة واحدة في قوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58]، وقوله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} [التوبة:61]، وقوله: {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي} [التوبة:49]. وهو الوصف نفسه الذي اتبعه مع الأعراب فقال: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} [التوبة:98]، وقوله: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:99].
يقول الأستاذ محمد بن سرّار اليامي في مقاله (كل تعميم خطأ):
“رأيت أن من الخطأ التعميم، وليس أخطر على الذهن من إطلاق اللسان، بالكلام، وبتعميم الأحكام، فإن الذي يعمم الكلام على كل الأنام يتجاهل مواهبهم، ومقدراتهم، وعقولهم، بل ويفرض السيطرة الفكرية عليهم, وليس هذا لأحد من البشر..
وقاعدة التعميم في كل شيء وعلى كل شيء محض الجور .. فهي اكتساح للعقول المحترمة”
ومنها كذلك عدم ذم شخص بتعميم خلق واحد لا يعجبنا فيه، بل نوازن بين ما نحبه فيه من أخلاق حميدة، ونذم السيئ منها، وقد علمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نقول للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت، أو أحب فيه خلق كذا، وأكره فيه خلق كذا.
ومن أكثر صور التعميم، هو التعميم الذي يستخدم في انتقاد مجتمع بأكمله، أبناء أسرة واحدة، أبناء مدينة معينة، قومية أو طائفة، أو فكر، أو مذهب، أو التحريض على إقصائه أو اجتثاثه وربما يصل إلى التنكيل به، وذلك لمجرد سلوك مرفوض قام به فرد أو عدد من أفرادها، ويأتي هذا التعميم غير الموضوعي في إطلاق الأحكام المتسرعة من دون بحث أو تحقيق أو تحرٍّ للحقائق.
التعميم آفة يجب التخلص منها على مستوى الفرد والمجتمع، وأن نتخلق بأخلاق القرآن في منهجية التعامل مع المجتمعات والأشخاص وأن نعمل بما قال تعالى: (أَلَّاتَزرُ وَازِرَةٌ وِزْر أُخْرَى)، وقال: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّأ مَا سَعَى)، وقال: (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)، كل هذه النصوص توجب ألا يؤاخذ أحد بذنب غيره أو بالتعميم على مجتمعه.
يقول ابن القيم -رحمه الله- حول قاعدة التعامل بدون تعميم “والكيس من عاشر كل طائفة على أحسن ما عندها، وكانت له بكل غنيمة سهمًا”.
وما ذكره ابن القيم يشمل كل عناصر المجتمع سواء كانوا كيانات أو جماعات أو تيارات فكرية وسياسية، أو أفرادًا داخل هذا الإطار.