المصطلح وتعدد المفاهيم (3. الدين)
أ. محمد خليفة
مفكر ليبي
الدين مصطلح يعكس أربعة مفاهيم: العقيدة، والعبادة، والشريعة، والحساب. والغفلة عن تعدد المفاهيم تجعل الغافل يعتقد أننا مسلمون ما دمنا نصلي، ونصوم، حتى إن كانت العقيدة فاسدة والشريعة غائبة. وتتعدد أسباب الغفلة وما يترتب عليها من تشوهات فكرية؛ فبعض أسبابها مرجعه إلى الجهل المتفشي في الأمة، وبعضه الآخر يعود إلى تلقي أبناء المسلمين تعليمًا غربيًا زودهم بمصطلحات شبيهة بمصطلحاتنا أو حتى مطابقة لها، لكنها على مستوى المفاهيم مغايرة لمفاهيمنا وناقضة لديننا لأن أصولها من عالم تعدد الآلهة، والفروع تتبع الأصول حتمًا. هذان إذن سببان جوهريان لنشأة الفساد على مستوى النظر والممارسة في عالم المسلمين!
لكل ما سبق بات من الواجب تحديد الفوارق بين بضاعتنا وبضاعة غيرنا حتى لا يختفي الفساد وراء وحدة المصطلح، لأن مسح الفوارق بين الناس باسم “المساواة” مشروع غير بريء. وهناك خلط متعمد للمفاهيم قصد تمرير أعمال غير مشروعة بغطاء من المصطلحات البريئة ظاهريًا، كالحرية والمساواة. والغاية النهائية لهذه المشاريع هي إخراج المسلمين من الإسلام بطريقة أو بأخرى، أو دفع المسلمين لنبذ الإسلام باستخدام العنف المسلح إن لم ينجح الإكراه المعنوي والحصار الاقتصادي. لذا وجب تبيان المفاهيم وفق منهجية إسلامية تدرك التشابه في المصطلحات دون إلغاء للفوارق الجوهرية بين المسلمين وغير المسلمين.
أولاً. الدين بمعنى العقيدة. الاصطلاح الأصلي في القرآن والحديث هو “الإيمان”، ومن ذلك قوله تعالى: “وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ۚ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ”. وفي حديث جبريل وسؤاله عن الإيمان قال صلى الله عليه وسلم: “الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر..”.
أما مصطلحات من نوع الاعتقاد والمعتقد والعقيدة، فهي تنتسب كلها من حيث الأصل إلى ما ورد في القرآن الكريم مثل “لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ…”! هذه المصطلحات شائعة الآن لكنها لم تكن كذلك في القرون الأولى. لم تظهر هذه المصطلحات إلا في العصر العباسي، وابتداءً من ابن جرير الطبري (224-310 هـ) الذي استخدم مصطلح المعتقد، بينما استخدم غيره مصطلح الاعتقاد ثم العقيدة.
في سياقها المعرفي-التاريخي تبين هذه المصطلحات التطور اللغوي الذي شهده الإسلام بوصفه حضارة ناشئة يتداخل الصراع والحوار في علاقاتها الداخلية ومع بقية الشعوب والحضارات. هذا التداخل بين الحوار والصراع على المستويين الداخلي والخارجي فرض تطوير المصطلحات حسب مقتضيات الحوار أو الصراع، ومن معالم هذا التطور ظهور علم جديد اسمه “علم الكلام”. هذا هو معنى الحضارة: أن يصبح الكلامُ علمًا، لأنه إن لم يكن علمًا فهو لغو وثرثرة.
وقد جاء تطوير المصطلحات واشتقاق بعض الجديد منها ضمن ما يعرف في التاريخ الإسلامي بعصر التدوين، الذي ابتدأ في القرن الهجري الثاني (وسنة 143 هـ على وجه التقريب). هذا العصر يمثل النقلة التي حولت الحضارة الإسلامية من حضارة مشافهة إلى حضارة كتابة، وبذا انتهى عصر الأمية الذي ميّز بدايات الحضارة الناشئة. وفي كل هذه التطورات كان “الإيمان” أو “العقيدة” هو المحرك والموجه للنشاط البشري الذي أعطى الحضارة الإسلامية طابعها المميز.
ثانيًا. الدين بمعنى العبادة. وهي الطاعة المطلقة لله فيما أمر به ونهى عنه، لكن المصطلح غلب على الأعمال التي يؤديها الإنسان بشكل دائم كالصلاة أو بشكل دوري كالصوم والزكاة أو الحج. وما يميز العبادات أن التوجه بها يكون لله وحده، فمن توجه بها لغيره أشرك وحبط عمله.
واتباع النبي في العبادات واجب، ولا تقبل العبادة إلا على النحو الذي شرَّعه النبي عليه الصلاة والسلام، من حيث أمر بالعبادات ومارسها في حياته، لينقلها ويدعو إليها المسلمون بعد مماته. لكل ما سبق يوصف النبي عليه الصلاة والسلام بالشارع، لأنه شرَّع للمسلمين دينهم ولا سيما في جانب العبادات، حيث قال فيما يخص الصلاة “صلوا كما رأيتموني أصلي”، وفي الحج قال “خذوا عني مناسككم…”. وهذا يوصلنا إلى الدين بما هو منهج للتفكير والتصرف (شريعة).
ثالثًا. الدين بمعنى الشريعة. قبول شرائع الإسلام متفرع عن الإيمان به منهجًا للحياة وسبيلًا إلى الآخرة، حيث يؤتي الإيمان أكله ويرتد الكفر وبالًا على أهله. وفيما سلف يقول جل وعلا: “وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ”.
المصدر الأول لعقيدة المسلم هو المصدر الأول لشريعته (القرآن). ولا خلاف بين المسلمين في أن مصادر الشريعة هما الكتاب والسنة، لكن الاعتقاد بأن الاجتهاد يمكن الاستغناء عنه تسبب في أن تلحق بنا الأمم غير المسلمة ثم تتجاوزنا ونبقى نحن في موقع المتخلف.
لقد توقف الاجتهاد عند لحظة تقرير أن الشريعة ليس لها مصادر فقط، بل لها مقاصد كذلك. وبين قدسية المصادر وأخلاقية المقاصد تمددت الشريعة وتضخمت لتغطي كل أنواع المعاملات، وباستثناء ميدان واحد هو ميدان “الإمامة”، حيث تقرر لدى الشهرستاني أنه ميدان سفك الدماء ونصح أبو حامد الغزالي باجتناب التنظير له أو الاقتراب منه، ولهذه المواقف القديمة أصداء في العصور المتأخرة ومن ذلك قول محمد عبده “لعن الله السياسة وساس ويسوس..”! وليس للمسلمين من حل قبل تسوية معضلة الإمامة، بل ستظل مشاكلهم تتفاقم حتى تسوى هذه المعضلة. وحل هذه المعضلة لا يكون بالتوجه إلى الخلف والسير إلى الوراء، أو اعتبار أن الطاغوت وليًا للأمر وانتهى الأمر!
رابعًا. الدين بمعنى الحساب. لا خلاف في أن “يوم الدين” المذكور في سورة الفاتحة هو يوم القيامة أو يوم الحساب في الآخرة. وترادفت الآيات في إثبات هذا المعنى، ومن ذلك اتفاق المفسرين في أن المقصود بالدين في آية “يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ” هو الحساب والثواب والعقاب عن أعمال الدنيا. وفي القرآن ما يؤيد هذا المعنى لقوله تعالى “وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ”. وهذا الحساب على بعده بالنسبة للحسابات البشرية إلا أنه عند رب العالمين سريع قريب. ولا أعتقد أن هذا المفهوم للدين مما يحتاج إلى طويل شرح بالنسبة لأي مسلم، لذا سأكتفي بما سلف، وأرجو أن يكون فيه ما يكفي لمن أراد معرفة تعدد مفاهيم الدين عند المسلمين، بالنسبة إلى غير المسلمين من الباحثين والدارسين المقارنين.