بناء المجتمعات.. البداية من الفرد..
د. علي جمعة العبيدي
صناعة المجتمع هي أهم صناعة يجب أن تُركّز عليها أي دولة إذا أرادت أن تنهض، وللأسف أهم ما يركز عليه الزعماء والقادة لدينا هو بناء الجيوش والأجهزة الأمنية التي تُثبّت حكمهم والأجهزة القضائية التي تؤمن حكمهم، ثم يلتفتون لبناء المؤسسات التعليمية والعلمية ولكن هدفها الرئيس ليس المجتمع أو المواطن بل تمجيد القائد المُلهم والزعيم المُفدى، وإن كل ما حدث ويحدث وسيحدث هو بفضل توجيهاته ورؤيته، ولو أصبح هناك أي خلل في البلاد أول ما يتضرر هذه المؤسسات، وأول ما يتعطل هو العمل بها، مثلاً: قد نرى في دولة شقيقة (ما) جامعة على مستوى عالٍ من التطور ولكن دكاترتها ليلاً ونهاراً يُمجدون الزعيم المُفدى، وأول ما تخرج تظاهرات ضد الزعيم نرى تراجع عمل الجامعة، وترتيبها الدولي، ومستوى الطلاب الذين يتخرجون فيها، هذا كله لماذا؟ السبب بسيط لأن الأساس الحقيقي الذي بُنيت عليه ليس صحيحاً وليس سليماً بل هو أساس مهترئٌ هدفهُ القائد وصورته وليس العلم والمجتمع.
دول كثيرة حولنا شهدت هزات سياسية ولم ينهار المجتمع فيها مثلاً: تركيا شهدت نحو أربعة إلى خمسة انقلابات عسكرية منذ عام 1960م وحتى عام 2016م،فهل دُمِّرت الجامعات فيها والمراكز البحثية؟ هل تراجع التعليم والفكر الثقافي للفرد التركي؟ بخلاف ذلك تماماً شهدت البلاد تطورات علمية كثيرة ومهمة ولم تتراجع على الرغم من تراجع العمل السياسي المدني في البلاد ولكن العمل العلمي وتطوير المجتمع لم يتراجع، كذلك إيران، إذ سقط الشاه في عام 1979م، ومنذ ذلك الحين شهدت البلاد تطورات ثقافية وعلمية وعسكرية كبيرة ولم تتراجع ولم تدمر الحكومة الإيرانية الجديدة ما بناه الشاه وطوّره، والشيء نفسه روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991م. وأقوى تجربة ماثلة هي تجربة اليابان بعد الحرب العالمية الثانية وضع منهج علمي لبناء الإنسان وصناعة الهوية بالتركيز على المؤسسات التعليمة بحيث أصبح الطفل قادراً على أن يُمارس القيادة التعاونية، أما لدينا في الدول العربية أول ما تحدث هزة ننسف ما بُني سابقاً ونعمل للبناء من جديد مثل الطفل الذي يُعمر قصراً من الرمال على شاطئ البحر مع أول موجة تنسفه أو هو يهدمه بنفسه، وكذلك هم زعماؤنا أما أن يدمروا ما بنوه أو نحن ندمر ما عمروه، وكأن ما دُشِّن هو ملك خاص لهم أو يمثلهم ولا نريده أو هم من ينسفوه كي لا يستفيد المجتمع منه بعده.
هناك أمثلة كثيرة على فشلنا في التخطيط لصناعة الوعي في المجتمع وبناء الإنسان والوعي البشري قدرتنا على التفكير والشعور بتوازن مما يُمكّن الفرد من اتخاذ قرارات سليمة وتحويل الأقوال إلى أفعال تُمكّن الآخرين من الأداء، مثلاً العراق منذ عام 2004م، وحتى عام 2014م أنفقت الحكومات المتتابعة نحو نصف مليار دولار على بعثات العراقيين العلمية وإرسالهم إلى اليابان وأمريكا وأوروبا، وهدف هذه البعثات تطوير وتحديث المؤسسات العراقية، وفي عام 2018م دفع العراق 80 مليون دولار لاستيراد 20 ألف دراجة نارية من نوع (التك تك) من أجل المواصلات وحل مشكلة البطالة من بنغلاديش أفقر دول العالم! في حين أن واردات العراق من النفط منذ عام 2003م وحتى عام 2022م بلغت نحو 1000 مليار دولار.
الفيلسوف العربي الأندلسي ابن خلدون يعتبر أن قيام دولة موحدة مركزية قوية هو أمر مشروط بقيام مجتمع قوي متماسك، وهذا المجتمع يكون قوياً عندما توجد له ثقافته الصحيحة وفكره السليم وتعليمه الصحي وخدماته الإنسانية الكاملة، وقتها فقط يكون هذا المجتمع سنداً للدولة وليس خنجراً في ظهرها، ولكن إيجاد مجتمع يبحث عن الرفاهية فقط من دون التعلم والدولة تعطيه حقوقه على أنها هبة من القائد المُلهم سيكون مجتمعاً متهالكاً لا قيمة له ومع أول عاصفة سينهار وتنهار أخلاقه.
الموقف السياسي في نظام يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمجتمع وحالته الصحية، وبقاء هذا النظام أو انهياره وفقر الدولة أو غناها يرتبط ارتباطاً مباشراً بالمجتمع، ولنفهم هذا الأمر يكفينا أن ننظر حولنا فنرى كثيرة هي الدول المُنهارة أو التي على وشك الانهيار وكذلك بسبب أن النظام لو يفهم طريقة بناء المجتمع.. والمجتمع يبدأ من الفرد فعلى الدولة أن تثقف أبناءها على القيادة فالفرد هو قائد في بيته وفي مجتمعه وعمله، وعليه أن يتصرف كذلك وأن يمارس حياته اليومية بوصفه قائداً مسؤولاً عن بناء المجتمع ويأخذ القرارات التي يراها مناسبة لهذا الأمر، وعلينا أن نأخذ بكلام النبي محمد صلى الله عليه وسلم حرفياً لأنه لا ينطق عن الهوى، إذ قال: “كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ فالأميرُ الذي على الناسِ راعٍ عليهم وهو مسؤولٌ عنهم والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتِهِ وهو مسؤولٌ عنهم والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بعلها وولدِهِ وهي مسؤولةٌ عنهم وعبدُ الرجلِ راعٍ على بيتِ سيدِهِ وهو مسؤولٌ عنهُ ألَا فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيتِهِ”. في هذا الحديث النبي يُعلمنا كيف نكون قادة لنبني مجتمعاً سليماً صحياً بعيداً عن أي سبب من أسباب انهيار الأمم.
د. علي جمعة العبيدي
دبلوماسي ليبي