حتميّة انتصار الحقّ: دلالات وتداعيات
أ. محمد العوامي
تتردد في أرجاء القرآن الكريم آياتٌ مباركاتٌ تحملُ في طيّاتها دروسًا عظيمةً وحكمًا بالغةً، ومن بين تلك الآياتِ اللامعةِ قولُ الله تعالى: { فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ } [سورة الأعراف: 118].
تُلامسُ هذه الآيةُ الكريمةُ شغافَ المؤمنِ وتُثيرُ في نفسهِ تساؤلاتٍ عميقةً حولَ معنى “وقوعِ الحقّ” وتداعياتِهِ على حياةِ الإنسانِ.
☑️ معنى “وقوع الحقّ”:
يُشيرُ “وقوعُ الحقّ” إلى تحقّقِهِ وانتصارهِ على الباطلِ، وظهورهِ جليّاً لا مِريةَ فيهِ، فكأنّ الحقّ يَسقطُ من السماءِ كالشهبِ النيّرِ، ليُبدّدَ ظلمةَ الباطلِ ويُنيرَ دروبَ المؤمنينَ.
▪️يقول صاحب الظلال رحمه الله:
[“وإذا الحق راجح الوزن، ثابت القواعد، عميق الجذور ..والتعبير القرآني هنا يلقي هذه الظلال، وهو يصور الحق واقعاً ذا ثقل: ( فوقع الحق )…وثبت، واستقر..وذهب ما عداه فلم يعد له وجود: ( وبطل ما كانوا يعملون )”.. ]
☑️ لماذا قال “وقع” ولم يقل “نزل”؟
يُلاحظُ الدّارسُ المُتأمّلُ أنّ اللهَ تعالى قد استخدمَ فعلَ “وقع” بدلاً من “نزل” في هذه الآيةِ الكريمةِ. ولعلّ في ذلكَ حكمةً إلهيّةً عميقةً، فـ “النزولُ” يُشيرُ إلى حركةٍ مُتدرّجةٍ، بينما “الوقوعُ” يدلّ على حدوثٍ مفاجئٍ وظهورٍ جليٍّ لا مِريةَ فيهِ.
☑️ لماذا يتأخر الحقّ؟
يُثيرُ استخدامُ فعلِ “وقع” تساؤلاً آخرَ: لماذا يتأخرُ الحقّ أحياناً؟
يُجيبُنا القرآنُ الكريمُ على هذا السؤالِ في آياتٍ أخرى، فاللهُ تعالى يُمهلُ الظالمينَ ويمنحُهم فسحةً من الوقتِ ليتوبوا ويَرجعوا إلى الحقّ، ولكنّ هذهِ المهلةَ ليستْ دليلًا على ضعفِ الحقّ أو عجزِهِ، بل هي رحمةٌ من اللهِ تعالى لعبادهِ وإتاحةٌ لهم لِلّتوبةِ والرجوعِ إلى الصراطِ المستقيمِ.
▪️يقول صاحب الظلال رحمه الله:
[“وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الخير والحق والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة، فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها قرار، فيظل الصراع قائما حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر، ولاستبقائه!
ومن أجل هذا كله ـ ومن أجل غيره مما يعلمه الله ـ قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام، مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية”].
☑️ عندما ينزل الحقّ، يكون أوجع:
يُشيرُ بعضُ المفسرينَ إلى أنّ استخدامَ فعلِ “وقع” يُضفي على معنى الآيةِ بُعدًا آخرَ، وهو أنّ الحقّ عندما ينزلُ على الأرضِ ويُحقّقُ انتصارهِ على الباطلِ، فإنّهُ يُسبّبُ ألمًا شديدًا للظالمينَ والمجرمينَ، فكأنّ الحقّ ينزلُ كالصاعقةِ التي تُحطّمُ شوكةَ الظلمِ وتُنزلُ العقابَ على أهلِهِ.
✔️ إنّ آيةَ { فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ } تُقدّمُ لنا درسًا إيمانيًا عميقًا يُؤكّدُ على حتميّةِ انتصارِ الحقّ على الباطلِ، مهما طالَ أمدُ الظلمِ والضلالِ.
ولكنّ هذه الآيةَ تُذكّرُنا أيضًا بأهمّيةِ الصبرِ والمثابرةِ على الحقّ، فالحقّ قد يتأخرُ أحياناً، ولكنّهُ لا بدّ أن ينتصرَ في النهايةِ.
ويجبُ أن نُدركَ أنّ الحقّ عندما ينزلُ على الأرضِ، فإنّهُ يُسبّبُ ألمًا شديدًا للظالمينَ والمجرمينَ، ولكنّهُ يُؤدّي إلى سعادةِ المؤمنينَ وراحةِ قلوبِهم.