عاممقالات الرأيمقالات تربوية

فقه سليمان (عليه السلام) في إدارة الدولة

د. علي محمد الصلابي

إنّ القصص القرآني في سيرة سليمان عليه السلام أشار إلى أساليبه في إدارة الدولة، والمحافظة على التمكين، وهذا الفقه يظهر في النقاط الآتية:

1. دوام المباشرة لأحوال الرعية، وتفقد أمورها، والتماس الإحاطة بجوانب الخلل في أفرادها وجماعاتها، كان هذا هوحال سليمان عليه السلام، ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ﴾ [النمل: 20]، وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك، والاهتمام بكل جزءٍ فيه، والرعاية بكلِّ واحدةٍ فيها وخاصّةً الضعفاء.

ولا شك أنّ القيادةَ تحتاجُ إلى لجانٍ ومؤسساتٍ وأجهزةٍ حتى تستطيعَ أن تقومَ بهذه المهمة العظيمة، وإنَّ سليمان عليه السلام كان مهتماً بمتابعة الجند وأصحابِ الأعمالِ، وخاصّةً إذا رابَه شيءٌ في أحوالهم، فسليمانُ عليه السلام لمّا لم ير الهدهدَ بادر بالسؤال ﴿ مَالِي لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ ﴾، كأنّه يسأل عن صحة ما لاح له، ثم قال: ﴿ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾[النمل: 20]، سؤالٌ آخر ينمُّ عن حزمٍ في السؤال بعد الترفق، فسليمان عليه السلام أراد أن يُفهم منه أنه يسأل عن الغائب لا عن شفقةٍ فقط، ولكن عن جِدِّ وشدّةٍ، إذا لم يكن الغياب بعذر.

لا بد للدولة من قوانين حتى تضبط الأمور بحيث يعاقب المسيء، ويحسن للمحسن، ولا بدّ من مراعاة التدرج في تقرير العقوبة، وأن تكونَ على قدر الخطأ وحجم الجرم، وهذا عينُ العدالة، ولهذا لم يقطع سليمان عليه السلام بقرار واحد في العقاب عند ثبوت الخطأ، بل جعله متوقّفاً على حجم الخطأ ﴿لأَعِذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ﴾[النمل: 21]، وقد استدلَّ أهلُ العلم بهذه الآية على أنّ العقابَ على قدر الذنب، وعلى الترقّي من الشدة إلى الأشد قدر ما يحتاجه إلى إصلاح الخلل (سنة الله في الأسباب، الصلابي، ص32).

2. الاهتمام بالأجهزة الأمنية: فلا بدّ للدولة المسلمة أن تهتمَّ بالأجهزة الأمنية، وتحرص أشدَّ الحرص على الاهتمام بالأخبار والمعلومات، حتى توظَّفَ لخدمة الدين وعقيدة التوحيدِ، ونشرِ المبادئ السامية والأهداف النبيلة، والمثل العليا، وأن تحرصَ على تحبيب الجهاد لأبنائها، بواسطة الأجهزة الإعلامية والوسائل التربوية، وأن تعد النفوس للظروف المناسبة لإقامةِ الدين وإعلاء كلمة الله، وهكذا كان شأن سليمان عليه السلام. كما قال القرطبي رحمه الله: فإنّما صار صِدْقُ الهدهد عذراً له، لأنَّه أخبر بما يقتضي الجهاد، وكان سليمان عليه السلام قد حُبِّبَ إليه الجهاد.
3. الاهتمام بنصر دعوة التوحيد: فلا بدّ للقيادة في الدولة المسلمة أن تهتمَّ بنصر دعوة التوحيد، وبذل الوسع في تبليغها لكل مكلف، فإنَّ سليمان عليه السلام لمّا استمع إلى خبر القوم المشركين، شمّر عن ساعد الجد لإيصال البلاغ إليهم، وبدأ معهم بالحجة والبيان، قال تعالى: ﴿اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾ [النمل: 28].

قال القرطبي رحمه الله: في هذه الآية دليلٌ على إرسال الكتب إلى المشركين، وتبليغهم الدعوة، ودعائهم إلى الإسلام، وقد كتب النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وإلى كل جبّار.

ولقد كان كتاب سليمان عليه السلام لملكة سبأ يبدأُ بالرحمة، وتتخلله الكرامة، وآخره الدعوة إلى الاستجابة لله، والاستسلام له سبحانه: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل: 3031](تفسير القرطبي، م13، ص189).

4. الترفُّع على حطام الدنيا: فملكة سبأ عندما أعملت الحيلة لاختبار سليمان عليه السلام، تفتّقَ ذهنُها عن بعث هديةٍ له تمتحِنُ بها حبه للدين، فأظهرَ عدم الاكتراث بهذا المال، وأعلمَ من جاؤوا به أنّ الله تعالى آتاه الدين الذي هو السعادة القصوى، وآتاه من الدنيا ما لا مزيدَ عليه، فكيفَ يُستمال مثلُه بمثل هذه الهدية، وصارحهم بأنّهم هم الذين من شأنهم الفرح بتلك الهدية، التي ظنّوا أنه سيفرحُ بها، أما هو فلن يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، قال تعالى: ﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾[النمل: 36].
5. المقدرةُ على اتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب والمكان المناسب: وعدم التردد في القرار الصعب للتغلب على الحال الأصعب، فعندما وجد سليمان عليه السلام أنَّ القوم مازالوا على الشرك، بل يريدون استمالته وتنحيته عن صلابته في الحق، قال للوفد الذي جاء بالهدية: ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاَ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾[النمل: 37] ولا مانع من ركوب الشدة مع المعاند، واستعمال القوة في إرهاب من يصد عن الدعوة، فإنّ ذلك قد لا ينفعُ غيره في إنقاذِ الناس من الشرك، بل من المعادن البشرية ما لا يلينُ إلا تحتَ وهج السيف وسنابك الخيل، وكان هذا الأسلوبُ سبباً في إسلام ملكة سبأ، وانقيادها وجنودها لسليمان، ولا مانع من استعمال الذكاء والعقل النير ودقة التدبير في استجلاب قلوب المدعوين إلى الدين، واستخدام نعم الله في دلالة الخلق على الله، ومخاطبة الناس بالكيفية التي تستهوي قلوب عوامهم، وتجلب احترام خواصهم، فسليمان عليه السلام لمّا بلغه خبرُ مجيء ملكة سبأ في جمعٍ من حاشيتها وجنودها، أراد أن يُعْلِمَها مدى ما أعطاه الله من قوة، حتى إنّ عرشهـا الذي تركتـه في حمايـة عظيمـة وحرس كثيف سبقها إليه (الحكم والتحاكم في خطاب الوحي، عبد العزيز كامل، (9/193).
6. الاستفادة من المهارات والمواهب: على الدولة المسلمة أن تستفيدَ من المهاراتِ والمواهبِ وإمكانات الخاصة في أفراد الرعية، ووضع الفرد المناسب في مكانه الصحيح. إنّ مملكة سليمان عليه السلام كان فيها من الإنس والجن وغيرهم ما كان يمكن أن يؤدّي مهمة الهدهد، ولكنّ سليمان عليه السلام اختاره مع ضعفه وصغره لتأدية هذه المهمة، فـتخصيصه عليه السلام إيّاه بالرسالة دون سائر ما تحت ملكه من أمناء الجن الأقوياء على التصرف والتعرف، لما عاين فيه من مخايل العلم والحكمة (سنة الله في الأسباب، الصلابي، ص35).

المراجع:

سنة الله في الأسباب، علي الصلابي، دار ابن كثير.
الحكم والتحاكم في خطاب الوحي، عبد العزيز مصطفى كامل، دار طيبة للنشر والتوزيع، طبعة: الأولى، ١٤١٥ هـ – ١٩٩٥ م
تفسير القرطبي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى