عامقضايامقالاتمقالات الرأي

فلسطين.. وصف قرار تقسيمها

الشيخ/ محمد بشير الإبراهيمي

تصدّع ليلُ فلسطين الداجي عن فجر كاذب العيان، وتمخّض مورد الطامعين في إنصاف أوربا القديمة وأوروبا الجديدة عن آل لماع يرفع الشخوص ويضعها في عين الرائي لا في لَمْسَ اللامس، وباء الظانُّون ظنَّ الخير بالضميرين الأوربي والأمريكي بما يستحقّونه من خيبة تعقُبها حسرة، تعقُبها ندامة؛ وتكشف ذلك اللبس الذي دام عشرات السنين عن الحقيقة البيضاء، وهي أن حق الشرق لا وليَّ له في الغرب ولا نصير، وجاء بها هذا المجلس الذي يُسمّونه- زوراً- مجلسَ الأمم المتحدة شنعاء لا تُوارَى من أحكام القاسطين، وأحلام الطامعين.

تراءى الحقُّ والباطل في ذلك المجلس، لا العربُ واليهود، وجاء أهل الحق يحملون المنطق، ويخطبون المعدلة، ويخاطبون الضمير والعقل، ويحتكمون إلى الشعور والإحساس وما منهم إلا من هو في الخصام مبين؛ وجاء أهل الباطل يحملون الإبهام المضلِّل، والكيد المبيت، والمكر الخفي، والدعاوى المقطوعة من أدلّتها، ومع كل أولئك- الرنين الساحر يستهوُون به الأفئدة الهواء والضمائر الخربة؛ وأنصَتَ التاريخ ليسجّل الشهادة، واستشرف الكون لينظر هل تُخرَق للأقوياء عادة، ونُشِر الأصل والدعوى. وتعارضت البيِّنة والشبهة، وأفصح الحق واتّضَح، ولجلج الباطل وافتضح، ولكنّ تلك الدول المتحدة على الباطل ألجمها الحق بحججه، وأجرَّتها الحقيقية بوضوحها، فحكموا الانتخاب … وليت شعري أي موضع للانتخاب هنا؟ إن تحكيم الانتخاب هنا كتحكيم القُرعة بين أصحاب الحظوظ المتفاوتة، كصاحب العشر مع صاحب النصف، كلاهما باطل، لا يسيغه عقل ولا شرع … وأي فرق بين ما نعيبه من تحكيم الجاهلية للأزلام الصمّاء وحصى التصافُن، وبين تحكيم أصوات من أموات وويلات، سمّوهم ممثِّلي دويلات؟

أسفر الانتخاب عن تقسيم فلسطين تحدّيًا للعرب وحقّهم، وللمسلمين ودينهم، فكان حظ اليهود منها- بغير انتخاب ولا قرعة- الجهات الخصبة، المتصلة بالعالم، القريبة من الصريخ، الموطأة الأكناف، المأمونة الأمداد والمرافق؛ وكان حظُّ العرب منها الجهات الرملية القاحلة والجبلية الجرداء، وكان حظ البيت المقدَّس ميراث النبوّة عن النبوّة أن يصبح إرثًا لأحفاد الصليبيين، وذِيدَ عنه الخصمان المحقّ والمبطل: فلا اليهود به فازوا، ولا العرب إيَّاه حازوا، وإنا لنعلم الاعتبارات التي بُني عليها هذا التقسيم، والمكائد التي انطوى عليها، والمقاصد التي رَمى إليها، وإنا لنعلم الدواعي التي حملت الناطقين على النطق والساكتين على السكوت. وإننا لا نغترُّ بما حاكوا وما لاكوا، ولا نرتد على أعقابنا بما حذَّروا وما أنذروا، ولا نعتبر الحياد إلا كيادًا، وإنَّنا نعتقد أنهم جميعًا سيذوقون وبالَ أمرهم، وأن مكرهم سيحيق بهم، وأن تشتيتهم لشمل فلسطين فاتحة لتشتيت شملهم، وأن النار التي أشعلوها في فلسطين ستلتهمهم جميعًا.

إيه يا فلسطين! لقد كنت مباركةً على العرب في حاليْكِ! في ماضيك وفي حاضرك! كنتِ في ماضيك مباركةً على العرب يوم فتحوك فكمّلوا بك أجزاءَ جزيرتهم الطبيعيّة، وجمَّلوا بك تاج ملكهم الطريف، وأكملوا بحرمك المقدس حرميْهم، ويوم اتّخذوك ركابًا لفتوحاتهم، وبابًا لانتشار دينهم ومكارمهم ومرابطَ لحُماة الثغور منهم … أنت عتبتهم إلى مصر، ومعبرهم إلى أفريقيا، ومنظرتهم إلى بحر العرب، لم تطأكِ بعد أقدام النبيين أطهرُ من أقدامهم، ولم يحمِك بعد موسى أشجعُ من أبطالهم … وكنت مباركةً عليهم في حاضرك المشهود فما اجتمعتْ كلمتهم في يوم مثل ما اجتمعتْ في يوم تقسيمك، ولقد فرّقهم الاستعمار الخبيث في عهدهم الأخير، فما تنادَوْا إلى الاتحاد مثل ما تنادَوْا إلى الاتحاد في سبيلك، ولقد تخوّف أوطانهم من أطرافها، فما تداعوا إلى الذود عن قطعة من أرضهم مثل ما تداعوا إلى الذود عنك.

أما والله يا فلسطين، لكأنَّ أعداء العرب أحسَنوا إليهم بتقسيمك من حيث أرادوا الإساءة، ولكأنّ المصيبة فيك نعمة، ولكأنّهم امتحنوا بتقسيمك رجولتنا وإباءَنا ومبلغ التضحية بالعزيز الغالي فينا، ولكأنَّهم جسّوا بتقسيمك مواقع الكرامة والشرف منّا، وكأنّ كل صوت من أصواتهم على التقسيم صوت جهير ينادي العرب: أين أنتم؟ فلا زلتِ مباركةً على العرب يا فلسطين!

أيها العرب! قُسمت فلسطين فقامت قيامتكم.. هدرت شقائقُ الخطباء، وسالت أقلام الكتّاب، وأرسلها الشعراء صيحات مثيرةً تحرّك رواكدَ النفوس، وانعقدت المؤتمرات، وأقيمت المظاهرات، فهل كنتم ترجون من الدول المتّحدة على الباطل غير ذلك؟ وهل كنتم تعتقدون أنه مجلس أمم كما يزعم؟ كأنَّ تلك الأمم وحَّد بينها الانتصار على الألمان النازي، واليابان الغازي. فجعلت من شكر الله على تلك النعمة أن تنظم أمم العالم في عقد من السلام والحرية تستوي فيه الكبيرة والصغيرة؛ ودوله في مجلس تستوي فيه القوية والضعيفة، ليقيم العدل، وينصف المظلوم، وكأنَّكم ما علمتم أن ذلك المجتمع يمشي على أربع، ثلاث موبوءة، والرابعة موثوءة.

يا قوم، ما ظُلمت فلسطين يوم قُسمت، ولكنَّها ظُلمت يوم بذل بلفور وعده للصهيونيين باسم حكومته، وما منَّا- أهلَ هذا الجيل- إلا من شهد يوم الوعد، وشهد يوم التقسيم، وشهد ما بينهما، ومَن عرف مصادر الأمور عرف مواردها، فانظروا- ويحكم- ماذا فعل الصهيونيون من يوم الوعد إلى يوم التقسيم، وانظروا ماذا فعلنا.

علم الصهيونيون أن الوعد لا يعدو كونه وعدًا، وأن نصّه الطريّ اللّين هو: “أن إنجلترا تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين!”، فأعدّوا لتحقيقه المال، وأعدُّوا الرجال، وأعدّوا الأعمال؛ واتخذوا من الوقت سلاحًا فلم يضيعوا منه دقيقة، واستعانوا بنا علينا … فاكتسبوا من ضعفنا قوة، ومن جهلنا قوة، ومن تخاذلنا قوة، ومن غفلتنا قوة، ومن أقوالنا الجوفاء قوة، وأصبحت هذه القوّات كلها ظهيرًا لهم علينا.

وعلمنا نحن أن ذلك الوعد وعد إنكليزيّ وعد بلفور به اليهود عند حاجته إلى ذهبهم، كما وعد الشريف حسينًا بخلافة شاملة ووحدة كاملة عند حاجته إلى تخذيل الأتراك، وأن الوعود الإنكليزية شيء عرفناه- بزعمنا- بعضُه من بعض، يُخلف مع اليهود كما أخلف مع الشريف حسين. وتعامينا عن الفوارق العظيمة بيننا وبين اليهود، وبين وعود الإنكليز لنا ووعودهم علينا.

كان الواجب أن نعمل من يوم الوعد لما ينقُض الوعد، فنجمع الشمل المشتت، والهوى المتفرق، ونقضي على الصنائع التي اصطنعوها منا، ونحارب الواعد والموعود بالسلاح الذي يحاربوننا به، ونعلم أن اليهود لا يكاثروننا بالرجال فرجالنا أكثر، ولا يكاثروننا بالشجاعة فشجاعتنا أوفر، وإنما يكاثروننا بالمال والعلم والصناعة، فلو كنا ممن يفكر ويقدِّر ويأخذ بالأحوط الأحزم، لبدأنا من أول يوم بالإعداد والاستعداد، فأعددنا المال، وأعددنا العلم، واستعددنا بالصناعة. وإن في ثلاثين سنةً ما يكفي لأن نستعدّ كما استعدّوا، وأكثر مما استعدّوا. لا بالأقوال والاحتجاجات التي هي سلاح الضعفاء، ولكن بمصانع العقول وهي مدارس العلم، وبمعامل الأسلحة والعتاد، وبمصايد المال وهي الشركات التجارية، ولو فعلنا لانجحر صهيون في وجاره، وانكمش من يؤازره اليوم من أنصاره، ولو فعلنا لما كانت مماطلة الأمس ولا تقسيم اليوم.

أما وإننا لم نفعل فلنعتبر أن صدمة التقسيم القاسية العنيفة هي تأديب إلهي بُنقّي من هممنا الوهنَ والزغل، وينْفي من صفوفنا الكلّ والوَكل، وإن الأمم التي تصاب بمثل تأخّرنا وتخاذلنا وغفلتنا لمحتاجة إلى أحداث ترجّها رجًّا، وتزجُّها في المضايق زجًّا، لتنفض عنها أطمار الخمول والضعة، وتطهرها من أدران الخوَر والفسولة.

إن العروبة لفي حاجة إلى ذلك الطراز العالي من بطولة العرب.

وإن الإسلام لفي حاجة إلى ذلك النوع السامي من الموت في سبيل الحق، ليحيا الحق.

______________________

المصدر: كتاب آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى