ليبيا من مشانق الميدان 1911 إلى مشانق رمضان 1984
فرج كُندي
بعد أن تكبدت قوات الغزو الإيطالية هزيمة عسكرية نكراء على أيادي المجاهدين الليبيين العزل من السلاح المادي المكتفين بالإيمان بعقيدة الدفاع عن الوطن والشهادة في سبيل الله في معركة الهاني في 26/ أكتوبر 1911م وتلقى منهم أكبر الدروس في الإقدام والتضحية والفداء.
خسرت إيطاليا الكثير من الجنود والمعدات العسكرية المتطورة؛ التي أنتجتها مصانعها ذلك الوقت؛ فكانت ردة فعل الشعب الليبي على هذه الجرائم اللاأخلاقية واللاإنسانية التي قامت بها القوات الإيطالية ضد أبناء الشعب الرافض للاحتلال الذي هبّ هبة واحدة في مواجهة المستعمر.
وفي محاولة يائسة لإخافة الشعب المقاوم, ولكسر روح هذه المقاومة الباسلة لديه قامت القوات الإيطالية في فجر الأربعاء، 6 ديسمبر 1911م، بنصب المشانق في الساحة المقابلة لقلعة السرايا (ساحة الشهداء) ومع شروق الشمس قامت بشنق 14 مجاهدًا ليبيًا؛ ليستيقظ الليبيون فيجدون أمام أعينهم طابورًا من المشانق علقت عليها أجساد كوكبة من خيرة أبناء الوطن, من الشيوخ والشباب لا ذنب لهم إلا أنهم وقفوا في وجه العدو الغاصب للوطن, في مشهد ظل محفورًا في أعماق أبناء ليبيا خالدا إلى يومنا هذا بتسمية الميدان “بميدان الشهداء” برغم محاولة القذافي محوه من ذاكرة الليبيين فحول اسمه إلى “الساحة الخضراء” ولكنه لم يفلح وعاد اسمه ميدان الشهداء تخليدا لأولئك الأبطال العظام الذين شكلوا أول قافلة من قوافل الحرية ومقاومة الاستعمار والاستبداد التي سار أبناء ليبيا في ركبها الموصول منذ بدايات الاحتلال الإيطالي أكتوبر 1911 إلى استشهاد عمر المختار في 16 سبتمبر 1931.
ثم تعود المسيرة منذ انقلاب سبتمبر 1969 إلى انتصار ثورة فبراير 2011؛ حين سار نظام سبتمبر منذ قيامه عام 1969 على خطى المحتل الإيطالي في قمعه للشعب الليبي منذ الأيام الأولى له في السلطة بالزج بكل من خالفه أو اعترض على طريقته في الاستيلاء على السلطة في السجون والمعتقلات والمطاردة حتى خارج حدود الوطن.
مارس نظام القذافي أبشع أنواع التعذيب والقهر على السجناء داخل السجون وعلى أهلهم وأسرهم خارج السجون؛ مع قيامه بسلسلة إعدامات داخل السجون إما تحت التعذيب أثناء التحقيق وإما بنصب المشانق أو رميا بالرصاص.
وإمعانا في إرهاب الشعب وتخويفه من مجرد التفكير في نقد نظامه أو الاعتراض عليه, وكرد فعل على محاولة أعضاء الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا التخلص من القذافي في محاولتهم الجريئة باقتحام مقر القذافي الحصين في باب العزيزية في مايو سنة 1984م.
كان الهجوم بواسطة عدد من الأشخاص المسلحين، الذين عبروا من خارج الحدود، ووصلوا للعاصمة طرابلس، لتنفيذ هجوم واسع على مقر حكم القذافي وحصنه الحصين (باب العزيزية بطرابلس) فسميت هذه المحاولة غير المسبوقة, والجريئة بـ”معركة باب العزيزية”.
عاقب النظام كل من كانت له علاقة بالمحاولة أو بالجبهة الوطنية عقوبة لا تختلف عن ما قامت به إيطاليا مع “شهداء الميدان” سنة 1911, وكأنه يعيد تاريخهم ويحتذي بهم حذو القذة بالقذة !!!. بالإعدام العلني شنقًا ولكنه استخدم شاشات التلفزيون لإدخال الرعب بين الناس من خلال المشاهدة عامة وداخل كل بيت غير محصورة في أماكن الإعدامات بالمدن والقرى التي ينتمون إليها, وفي الساحات العامة والملاعب الرياضية
بشكل اعتبره البعض – أنصار النظام – ضرورة للردع، واعتبره آخرون – معارضو النظام – مشهدًا غير سليم تخيم عليه الفوضى والرعب وجلب لهم التعاطف – الضحايا-، من حيث لا يدري.
والفريق الذي اعتبره ضرورة كان يمثل زبانية القذافي الذين باشروا عملية الإعدامات التي عرضتها الشاشات المرئية على الشعب في وقت ترقبهم أذان المغرب لتناول الفَطور في شهر رمضان الكريم, وهذا ما زاد من حرقة وألم المتعاطفين بل المصدومين من فظاعة المنظر وهول المشهد وتكالب الهتافين المعتدين على أجساد المعلقين على أعواد المشانق غير مبالين بحرمة الموت ورهبته. ولا حرمة الشهر العظيم وهيبته؟ !!!!.
بالإضافة إلى المشاهد المروعة التي لم تفعلها إيطاليا من قيام أتباع النظام بالهتاف والتصفيق والسب والشتم, وقيام البعض منهم بالاعتداء والضرب على المشنوقين.
وإمعانا في الكراهية وترويع وترهيب الناس قام البعض بالتعلق بأجساد المعلقين على أعواد المشانق في مشاركة مباشرة في القتل وفي رسالة مباشر لأقارب المشنوقين وكل من يفكر في معارضة النظام أنه سوف يكون مصيره معلقًا على عود مشنقة, وسيُفعل به ما فُعل بهؤلاء الضحايا دون مراعاة لأبنائهم وأسرهم وأقاربهم, ودون مراعاة لدين سماوي أو أعراف اجتماعية أو دولية أو إنسانية, وهذا الموقف ظل ومازال وصمة عار في تاريخ النظام, وفي كل من شارك فيه وهو محفوظ ومنتشر بالصوت والصورة لمن أراد أن يذكر أو يعتبر. !!!
أراد القذافي إرهاب الشعب الليبي وإرسال رسالة مرعبة وبشعة متأسيا بما فعله الاستعمار الإيطالي عام 1911 في “ميدان الشهداء” سائرا على نهجه محتذيا حذوه حذو القذة بالقذة مستلهما من الطليان فكرة الترويع والترهيب.