مجتمعاتنا وصناعة التفاهة والتافهين واستبعاد النابهين
الدكتور/ جمال نصار
من الأشياء اللافتة في العالم العربي، وخصوصًا في العقود الأخيرة، نجد أنه ازدادت ظاهرة علو وظهور الظواهر السلبية، وانتشارها بشكل مخيف، تمثّل ذلك في تعظيم دور العديد من الفنانين والسياسيين، وغيرهم في مواقع مختلفة، مع عدم تميُزهم أو تأثيرهم الإيجابي في المجتمع بالشكل المطلوب، بل وصل الأمر أن تصدرت الأفكار التافهة والأعمال الوضيعة، واستبعاد كل ما هو مفيد أو مؤثر في العديد من المجالات. وساعد على ذلك، للأسف، انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبح ما يطلبه المستمعون أو المشاهدون هو أساس الترويج والنشر، بصرف النظر عن القيمة والفائدة التي تعود على المجتمع والدولة، أو التأثير السلبي المضر على الأجيال القادمة.
والغريب أن بعض المجتمعات المحافظة تحولت إلى الترفيه المبالغ فيه، فبعد أن كانت هناك ضوابط مجتمعية، تحوّل المجتمع بقدرة قادر إلى مجتمع منفتح على الأفكار الغربية، والممارسات والسلوك المخالف لطبيعة البيئة وتقاليد المجتمع.
محو ثقافة القيمة أصبحت سياسة ممنهجة
إذا نظرنا وتتبعنا السلوك المجتمعي في العديد من الدول العربية نجد أن قيمة الأخلاق والاستقامة انخفضت بنسبة كبيرة، واتجه الكثير من الناس وخصوصًا الشرائح المرفهة والمتوسطة إلى الثقافة والممارسات قليلة القيمة، مثلما يحدث في إبراز العديد من الفنانين والفنانات في وسائل الإعلام المختلفة، وعقد المهرجانات هنا وهناك، وتقديم هؤلاء على أنهم نماذج، وقدوة للشباب!
في المقابل نجد أن السواد الأعظم من الشعب يعاني في حياته، ويكاد يوفر قوت يومه بصعوبة، ومن ثمَّ حينما يرى مثل هذا الإسراف في الحفلات الماجنة، والمهرجانات الكبيرة، وخصوصًا إذا كانت تحت عين ورعاية الدولة، فالطبيعي أن يحدث له ضيق نفسي، وعدم انتماء للدولة التي يعيش فيها، لأن كل شيء تغيّر، وأصبح الظهور والتميز للبارعين في مثل هذه الأمور دون غيرها.
إن غياب القيم المهمة مثل الأمانة، والصدق، والعفو، وحسن الخلق، وانتشار الخيانة، والكذب، وعدم الصفح، وسوء الخلق، كل ذلك أدى إلى تفاقم تلك المشكلات الكثيرة التي تواجه المجتمعات، حتى أنها وصلت إلى حد الخطر.
وفي الجهة الأخرى لا نلمس الاهتمام الكافي بالبحث العلمي أو الشباب المجتهد الذي لديه العديد من الأفكار المهمة التي يمكن أن تصُب في مصلحة البلد، بل ربما يجد أصحاب الأفكار النيّرة كل العنت، والتضييق من الجهات المسؤولة والإدارات المعنية. وهذا دفع الكثير من الشباب والعلماء في التخصصات المختلفة أن يبحثوا لهم عن وطن آخر يستطيعون من خلاله تنفيذ مشاريعهم وأفكارهم، وينتهي بهم المطاف إلى الهجرة إلى الدول الأوربية التي تثمّن الجهود العلمية والأفكار المفيدة.
دور الإعلام في الترويج للتفاهات
لا يمكن إنكار دور الإعلام وتأثيره في المجتمعات، كما لا يمكن الاستهتار بدور المجتمع في رسم معالم الطريق للعديد من المتصدّرين للمشهد، والذين يهتمون بنسب المشاهدة وعدد المتابعين. فوسائل الإعلام بكل أنواعها لا تعدو أن تكون في بعض الحالات مجرد مرآة تعكس الواقع الذي تنمو في أحضانه.
والتفاهة قد تكون وليدة المجتمع، والإعلام مجرد بوق يعبّر عمّا يحدث في المجتمع وناقل له، وأحيانًا كثيرة تقوم وسائل الإعلام المختلفة بتسليط الضوء على مثل هذه التفاهات بشكل مبالغ فيه، ويظهر ذلك جليًا أيضًا على وسائل التواصل المختلفة، فنجد عدد الإعجاب لهذه الأعمال أو لهذا الفنان، أو لهذه الحفلة يصل للملايين، في المقابل نجد أن اللقاءات المفيدة، والأعمال الهادفة على السوشيال ميديا لا تتعدى المشاهدة العشرات، إلا النذر من بعض المشاهير من العلماء الذين يلقون اهتمامًا كبيرًا ، ولكنه في النهاية لا يضاهي نسبة المشاهدات للأعمال التافهة.
كل ذلك في تقديري نتيجة تسليط الأضواء على الأعمال غير المفيدة في الإعلام، والترويج بشكل كبير لها بالطرق المختلفة، وللأسف وسائل الإعلام تبحث عن الطريق الأسهل للربح من خلال تكريس ما تراه في المجتمع، وفي غالب الأحيان لا تسعى إلى تغييره، أو توجيهه، أو التأثير عليها بالشكل الإيجابي. وفي كثيرٍ من الأحيان يتم الدعوة إلى العري والتبرج بشكل لافت، مع التمييز ضد الحجاب والمحجبات.
تأثير القيم المجتمعية في حياة الناس
الحقيقة أننا إذا تأملنا بعض القيم التي يجب أن تكون حاضرة في حياتنا لكي نسير في طريق التقدم، كما حدث في الغرب؛ يجب أن نهتم بها كما اهتموا، من ذلك على سبيل المثال: قيمتي احترام الوقت، وإتقان العمل، فالملاحظ أن التقدم في الغرب قام على هذين القيمتين، وأعطاهما الأولية الكبرى، أما إذا نظرنا في واقعنا العربي نجد أن هذين القيمتين مهملتين بشكل كبير، ولا يتم الإنجاز فيهما في غالب الأحيان.
ومن ثمّ علينا أن ندفع شبابنا إلى الاهتمام بمثل هذه القيم، وتهيئة الظروف لهم، لكي نسير في طريق التقدم إذا أردنا أن نسلك الطريق الصحيح، أما إذا كان الاهتمام بالأعمال التافهة، وتصديرها في المشهد الإعلامي، فسوف تكون العاقبة وخيمة على الفرد والمجتمع، وبالتالي على الدولة.
أقول إن القيم الإنسانية تزيد من احترام الفرد لذاته، فحينما يتلقى الفرد المعاملة الحسنة والاحترام ممن حوله، وخصوصًا الدولة، ويرى تقديرًا لدوره واحترامًا لكرامته، ودفعًا لإنجازاته، وإبداعاته، فإن هذا يزيد من احترامه لنفسه وإحساسه بالانتماء للمجتمع الذي يعيش فيه، ومن ثمَّ يعمل بكل جدٍ واجتهاد لصالح مجتمعه.
السبيل لحل هذه المعضلة
القيم الإنسانية لها أهمية كبيرة في حياة الأفراد والمجتمع، وبقدر تمسك الأفراد والمجتمع بالقيم الفاضلة، وتناقلها بين الناس، بقدر ما يكون لها التأثير الكبير في بناء الشخصية الناضجة التي تبني ولا تهدم، وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى شعور الإنسان بالراحة النفسية، والسلام الاجتماعي، والطمأنينة والاستقرار والتوازن في الحياة الاجتماعية، كما تساعده على كسب ثقة الناس واحترامهم ومحبتهم، والقدرة على التأقلم مع الظروف برضا وقناعة، وتشكيل نمط عام للمجتمع، وقانون يراقب تحركاته.
دور الدولة في تعظيم القيم
الحقيقة أن الدولة لها دور كبير في توجيه البوصلة والاهتمام بالنابغين والمتميزين منذ الصغر، وإعطاء الأولوية للقضايا التي تفيد المجتمع، والسعي لنشر القيم في المجتمع والتعليم ووسائل الإعلام المختلفة. فكلما ابتعدت الدولة عن إبراز القيم، وتقديم النماذج المفيدة، أو محاربتها، كلما أدى ذلك إلى الانحدار الأخلاقي، وغياب القيم والأخلاق.
ويجب تقديم البرامج الترفيهية الهادفة التي ترفع من القيم وتعطيها الأولوية، مع تثمين دور العلم والعلماء، وإبراز المتميزين والرفع من شأنهم، حتى يكونوا قدوة للأجيال القادمة، ومن ثمَّ يعود ذلك بالنفع على المجتمع والدولة.
أقول: إن غياب القيم المهمة مثل الأمانة، والصدق، والعفو، وحسن الخلق، وانتشار الخيانة، والكذب، وعدم الصفح، وسوء الخلق، كل ذلك أدى إلى تفاقم تلك المشكلات الكثيرة التي تواجه المجتمعات، حتى أنها وصلت إلى حد الخطر.
لذلك لا بد من نشر بذور القيم من جديد، وتأصيلها في المجتمع، ومحاولة غرسها في عقول وقلوب الأجيال القادمة للحد من انهيار المجتمعات، والتقليل من التفاهات وسوء الأخلاق بشكل كبير.