من وحي الهجرة
من وحي الهجرة
د. ونيس المبروك
1- الهجرة “فكرة” حية
فالهجرة فكرة حية، وليست رحلة تاريخية انتهت بموت أصحابها، بل هي فكرة تتجدد، كلما ضاق الأمر على المؤمن؛ فالمؤمن المتمسك بالمبدأ والرسالة والقيم، سيظل في مواجهة متكررة ودائمة مع المفسدين في الأرض، والظالمين المستبدين، فإما أن يبحث عن مكان يقيم فيه شعائر دينه ويعيش فيه حرا كريما، ويجد فيه كما قال القرآن “مراغما كثيرا وسعة”، أو يتنازل عن قيمه ورسالته، ويرتضي المهانة والذل، ويسمح لنفسه أن يرى الاستضعاف والاستخفاف، والمُنكر والقهر دون أن يحرك ساكنا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة” وقال عليه الصلاة والسلام “إنها ستكون هجرة بعد هجرة”
**
2- والهجرة ” عبادة” مشروعة.
فالهجرة عبادة مفروضة، وليست سنة مندوبة، أي أنها إحدى القربات؛ قال تعالى: “وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً”
وهي قُربى؛ شريطة أن تتوفر شروطها وتنتفي موانعها، فالهجرة ليست الأصل، ولا يجوز لمسلم ولا مسلمة أن يخرج من داره، إلا إن تعذّر عليهم إقامة شعائر دينهم، والحفاظ على أنفسهم وأعراضهم في عزة وكرامة.
قال تعالى: “إنَّ الَذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا …”
ومن رحمة الله تعالى أنه استثنى المستضعفين من هذا الحكم فقال: “إلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً …”
**
3- والهجرة “مدرسة” تربوية
لأن المسلم الصادق قد يتعرض للابتلاء في أحب الأمور إلى نفسه، والنفس البشرية تحب الركون للزوجة والأبناء والآباء والمال، أما المهاجر فقد ارتضى أن يجاهد نفسه، ويحاول قطع العلائق الثمانية التي تربطه بالأرض والذل، ويسد على نفسه باب الاعتذار بها، قال تعالى: ﴿قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاًتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ﴾. قال ابن عتيق، رحمه الله: “وما من أحد يترك الهجرة، إلا وهو يتعذّر بشيء من هذه الثمانية، وقد سدّ الله على الناس باب الاعتذار بها، وجعل مَن ترك الهجرة لأجلها أو لأجل واحدٍ منها فاسقاً، وإذا كانت مكة هي أشرف بقاع الأرض، وقد أوجب الله الهجرة منها ولم يجعل محبتها عذراً، فكيف بغيرها من البلدان”
****
4- والهجرة “قانون” اجتماعي
فالهجرة من نواميس الكون الغلابة، وسنن الله الماضية في الأمم والمجتمعات، مادام هناك برٌ وفاجر، وأمينٌ وخائن، وظالمٌ وعادل،.. وعلى المسلم أن يفهم هذا الدرس جيدا، لأن قوانين الكون وسنن الله تبارك وتعالى غالبة وقاهرة ولا يمكن مصادمتها، ولكن يجب على المسلم اكتشاف الفرص من خلالها وتوظيف تلك السنن لنصرة دين الله والتعريف برسالته الخالدة في أي مكان، فلولا الهجرة لما بلغت دعوة الله تعالى آفاق الزمان والمكان ولولا الهجرة لما عرفت معادن الرجال، ومن دلائل كونها سنة وقانون أن النبي صلى الله عليه وسلم، عندما أخبر ورقةَ بن نوفل، عن رؤيته للوحي، قال له: “ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك” قال صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟! فقال له ورقة: نعم، لم يأت رجل قَط بمثل ما جئت به إلا عودي”
وفي الهجرة دروس لا تنقضي، فالسيرة ترجمان عملي للقرآن، والقرآن “لا تنقضي عجائبه”
كل عام وأنتم إلى الله تعالى أرضى وأقرب، وأيامكم أهنأ وأهيأ.