عاممقالاتمقالات الرأي

«مهارات الاجتهاد المقاصدي وتطبيقاتها في الفتاوى السياسي( معالم إرشادية في صناعة الإفتاء السياسي)

( معالم إرشادية في صناعة الإفتاء السياسي)

الشيخ د. سالم الشيخي

– أولًا: موضوع الفقه هو أفعال المكلَّفين.
من المعلومِ أنَّ موضوعَ علمِ الفقه هو أفعالُ المكلَّفين، إذ تدورُ عليها الأحكامُ الشرعيَّةُ بنوعيها: التكليفيَّةِ والوضعيَّةِ، وهما معًا يشكِّلان الإطارَ العامَّ للمنظومةِ التشريعيةِ الفقهيَّةِ في الإسلام.
فـفعلُ المكلَّف لا يخرجُ عن حُكمٍ من الأحكامِ التكليفيَّةِ المقرَّرةِ شرعًا، وهي: الوجوبُ، والحرمةُ، والنَّدبُ، والكراهةُ، والإباحةُ.
وأفعالُ المكلَّفين – التي تشملُ الأعمالَ والأقوالَ والنِّيّاتِ – هي ميدانُ الخطابِ الشرعيِّ، وعليها تدورُ الأحكامُ الخمسةُ سلبًا أو إيجابًا.
وقد أجمعَ العلماءُ على شمولِ الشريعةِ الإسلاميَّةِ لكلِّ تصرُّفاتِ المكلَّفين، وأنَّ لكلِّ فعلٍ حُكمًا شرعيًّا محدَّدًا، وأنَّ الشريعةَ عامَّةٌ لا يخرجُ عن سلطانِها مكلَّفٌ قط، فوقَ أيِّ أرضٍ وتحتَ أيِّ سماءٍ.
ومن هذا المعنى انبثقت القاعدةُ الأصوليَّةُ المشهورةُ: «ما من حادثةٍ إلَّا وللهِ فيها حُكمٌ»، وهي قاعدةٌ جاءت في صِيَغٍ متعدِّدة، منها قول الإمامِ الشافعيّ – رحمه الله –: «فليست تنزل بأحدٍ من أهل دين الله نازلةٌ إلا وفي كتاب الله دليلٌ على سبيل الهدى فيها».
ومقصودُ هذه القاعدةِ أنَّ كلَّ أمرٍ جديدٍ أو نازلةٍ طارئةٍ تقع في حياةِ الناس، فلابدَّ أن يكونَ لها في دينِ اللهِ حُكمٌ من هذه الأحكامِ الخمسة، يجبُ طلبُهُ بالبحثِ والاجتهادِ ومعرفتِه والعملِ بمقتضاه.
– ثانيًا: السياسة من أفعال المكلفين.
الحُكمُ الشرعيُّ – الذي هو خطابُ اللهِ المتعلِّقُ بأفعالِ المكلَّفين بالاقتضاءِ أو التخييرِ أو الوضعِ – يشملُ جميعَ الأفعالِ، ومن ذلك الفعلُ السياسيُّ وسائرُ التصرفاتِ العامَّة.
فـالسِّياسةُ – كغيرِها من أفعالِ المكلَّفين – لا تخرجُ عن عملٍ أو قولٍ أو نيَّةٍ، وهي بذلك خاضعةٌ لأحكامِ الشريعةِ، محكومةٌ بمقاصدِها وضوابطِها.
ولذلك فإنَّ الفعلَ السياسيَّ أو القرارَ السياسيَّ أو التصرُّفَ أو الأداءَ السياسيَّ لا يمكنُ أن يخرجَ عن مجالِ موضوعاتِ الفقه التي يُحدِّدها التشريعُ الإسلاميُّ.
فكلُّ تدبيرٍ إداريٍّ أو قرارٍ سلطانيٍّ إنما يدورُ حكمُه بين الواجبِ والمندوبِ والمباحِ والمكروهِ والمحرَّمِ، بحسبِ مقاصدِه ونتائجِه ومآلاتِه.
وعلى ذلك، فإنَّ السِّياسةَ الشرعيَّةَ ليست أمرًا خارجًا عن نطاقِ الفقه، بل هي جزءٌ من تطبيقاتِه العمليَّة في مجالِ تدبيرِ الشأنِ العامِّ للأمَّة، تحتَ سلطانِ الشريعةِ وأحكامِها ومقاصدِها.
– ثالثًا: الأصل في الأفعال السياسية الإباحة.
الأصل في الأفعال السياسية هو الإباحة، وذلك جريًا على القاعدة المتفق عليها بين العلماء: أن الأصل في العادات والمعاملات الإباحة، فالأفعال السياسية – وهي من جملة التصرفات العادية لا التعبدية – يدخلها هذا الأصل، فلا يُمنع منها شيءٌ إلا بدليلٍ خاص. ومن أراد أن يُحرِّم فعلاً سياسيًّا بعينه، فعليه أن يأتي بالدليل الشرعي على تحريمه.
وعليه فإنّ انتقال الفعل السياسي من الإباحة إلى الوجوب أو الندب، أو التحريم أو الكراهة، لا يكون إلا بدليلٍ يقتضي ذلك الانتقال، وهذا الانتقال يكون على وجهين اثنين:
— الاقتضاء الأصلي:
وهو أن يكون الفعل السياسي مخالفًا لنصٍّ شرعيٍّ صريحٍ جاء بتحريمه، كالكذب، والغدر، والخيانة، والقتل بغير حق، ونحو ذلك من الأفعال التي حُرِّمت ابتداءً، فلا يصح أن تُوصَف بالإباحة لمجرد كونها تصرفًا سياسيًّا. فهذه الأفعال محظورةٌ على الإطلاق، لأن التحريم فيها قائمٌ على اقتضاءٍ أصليٍّ ثابتٍ بنصوص الوحي.
الاقتضاء التبعي:
وهو أن يكون الفعل في أصله مباحًا، ثم ينتقل عن الإباحة عند تزاحم المصالح والمفاسد، فيُرجَّح أحد الطرفين وفقًا للقواعد المقاصدية؛ فيُطلب الفعل إذا غلبت مصلحته، أو يُترك إذا ترجحت مفسدته.
ويبقى السؤال: هل ينتقل الفعل السياسي من الإباحة إلى الندب أو الكراهة؟
الذي يظهر – وفقًا لقاعدة الإمام الشاطبي رحمه الله – أن النظر الكلي في المقاصد هو الذي يحكم هذا الانتقال، فالإباحة حين تُنظر في إطارها الكلي، أي ضمن المقاصد العامة والسياسة الشرعية الجامعة، تنتقل عادةً إلى الوجوب إذا ترتب على الفعل تحصيل مصلحةٍ عامةٍ ضرورية، أو إلى التحريم إذا ترتب عليه تفويت مصلحةٍ ضروريةٍ أو جلب مفسدةٍ عامة.
أما الانتقال إلى الندب أو الكراهة في الأفعال السياسية فقلّ أن يقع، لأن السياسة بطبيعتها فعلٌ كليٌّ مرتبطٌ بالمصالح العامة لا الجزئية الخاصة، ولهذا فإن الأحكام الشرعية المتعلقة بالفعل السياسي تدور غالبًا بين الوجوب، والتحريم، والإباحة، بحسب ما يغلب فيها من مقاصدٍ ومآلات.
– رابعًا: الأفعال السياسية تدور على قاعدة المصالح والمفاسد
الأفعال السياسية في جوهرها تدور على قاعدة المصالح والمفاسد، ذلك أن السياسة الشرعية – كما تبيّن في تعريفها – قائمةٌ على تحقيق الصلاح والإصلاح والمصلحة، وتدور أحكامها على المعاني المصلحية التي ترعى مقاصد الشريعة وتسدّ ذرائع الفساد.
وفي واقعنا المعاصر، حيث تشابكت المصالح وتداخلت المفاسد، أصبح الحكم الشرعي المتعلّق بالفعل السياسي متوقفًا على قواعد إعمال المصالح والمفاسد، إذ لا يمكن النظر إلى الفعل بمعزلٍ عن مآلاته ونتائجه العامة.
فمتى تبيّن للمجتهد – بعد النظر المتوازن والتقدير الصحيح – أن هذا الفعل السياسي يُرجّح جانب المصلحة، وجب عليه أن يحكم بوجوبه إن كان تحقيق تلك المصلحة من قبيل الضرورات أو الحاجات العامة، أو أن يحكم بندبه إن كان من قبيل الآداب العامة أو المصالح التحسينية التي يُستحب تحصيلها.
وعلى العكس، إذا تبيّن أن الفعل السياسي يؤدي إلى مفسدةٍ تُخالف مقصود الشرع، فإن الحكم ينتقل إلى التحريم إذا كانت المفسدة واقعةً في شؤون الناس ومصالحهم العامة، أو إلى الكراهة إن كانت المفسدة يسيرةً وتدور في نطاق الآداب والسلوكيات الفردية.
وعليه، فإن مدار الحكم الاجتهادي في باب السياسة الشرعية هو المصالح والمفاسد؛ فحيثما وُجدت المصلحةُ الراجحة فثمّ الوجوبُ أو الندب، وحيثما وُجدت المفسدةُ كان المنعُ أو الكراهةُ.
وبهذا يتضح أن المقصد الأعلى في الفعل السياسي هو تحقيق المصلحة العامة ودرء المفسدة، وفق ضوابط الشريعة وموازينها المقاصدية الدقيقة.
— خامسًا: الاجتهاد في الإفتاء السياسي بين فقه الواقع وفقه الاستنباط.
إنَّ النظرَ الاجتهاديَّ في النوازلِ السياسيةِ عملٌ بشريٌّ يقوم على جهدٍ علميٍّ مركَّب، ومن ثمّ فهو يتفاوتُ باختلافِ المجتهدين، تبعًا لمدى إحكامهم للمعاييرِ الشرعيةِ التي ينبغي مراعاتها عند النظر في الوقائعِ السياسيةِ المتجددة.
وأصلُ هذه المعايير أن يدركَ المجتهدُ أنَّ تنزيلَ الأحكامِ الشرعيةِ على الوقائعِ السياسيةِ إنما هو ثمرةُ تفاعلٍ بين نوعين من الفقهِ والفهمِ والنظر، هما:
فقهُ الاستنباط، وهو الفقهُ بالنصوصِ الشرعيةِ وأصولِها ومقاصدِها وكيفيةِ استنتاجِ الأحكامِ منها.
فقهُ الواقع، وهو الفهمُ الدقيقُ لطبيعةِ الواقعِ السياسيِّ، وملابساته، والعواملِ المؤثرةِ فيه، وأبعادهِ الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ والإقليمية.
وهذا الأصلُ مقرّرٌ عند أهلِ العلم، ومجمَعٌ عليه بين الأصوليين، إذ لا يمكنُ تصوّرُ تكييفٍ وتنزيلٍ صحيحٍ للأحكامِ الشرعيةِ على الوقائعِ السياسيةِ المتغيّرة دون وجودِ تصويرٍ دقيقٍ للواقع، فالواقعُ هو الأرضيةُ الحقيقيةُ التي يُبنى عليها الحكمُ الشرعي، وبدونِها يكونُ الاجتهادُ قاصرًا أو منحرفًا عن وجهِه الصحيح.
وقد نبّهَ إلى هذا المعنى كلٌّ من الإمامِ الشاطبيِّ وابنِ القيمِ رحمهما الله، مؤكِّدَين أنَّ الحكمَ على الشيءِ فرعٌ عن تصوّره، وأنّ سلامةَ التصوّرِ مقدّمةٌ لازمةٌ لصوابِ التنزيل.
ومن هنا، فإنَّ أهميةَ فقهِ الواقع لا تقتصرُ على مرحلةِ التنزيل فحسب، بل يحتاجُ إليه المجتهدُ في مرحلتين أساسيتين:
المرحلة الأولى: عند النظرِ الابتدائيِّ في النازلة، لتكييفِها وتوصيفِها على نحوٍ دقيقٍ يضعها في موضعِها الصحيح ضمن الخريطةِ المعهودةِ عند الفقهاء.
المرحلة الثانية: عند تنزيلِ الحكمِ الشرعيِّ على تلك النازلة، أي في تحقيقِ المناط، إذ لا يُمكنُ تحقيقُ مناطِ الحكم دون فهمٍ شاملٍ للعواملِ الواقعيةِ المؤثرةِ في المسألة.
وبذلك يتبيّن أنَّ الاجتهادَ السياسيَّ الصحيح لا يكتملُ إلا بامتزاجِ فقهِ الاستنباطِ بالنصوصِ مع فقهِ الواقعِ والوقائع، حتى يتكوَّنَ من مجموعِهما نظرٌ شرعيٌّ متوازنٌ يُحسنُ قراءةَ النصِّ والمشهدِ معًا، في ضوءِ مقاصدِ الشريعةِ وضوابطِها الكلية.

Related Articles

Back to top button