موجة المادية والإلحاد المعاصرة .. خلفياتها وملامحها وأسبابها

أ. مراد فياض
مما لا تخطئه عين مراقب حاليا موجة المادية والإلحاد التي بدأت تعصف ببعض الدول الإسلامية منذ منتصف العقد الماضي تقريبا, وما هي في حقيقتها إلا ارتداد لموجة كبرى في العالم بأكمله, ولعل العالم الإسلامي اليوم هو أخر محطة وصلت فيه هذه الموجة, كما كان تاريخيا أخر محطة وصلت إليها حملات الإستعمار الغربي. وهو بذلك يمثل الحصن الأخير للإنسانية من هذه الموجة المدمرة للأخلاق والفطرة, وعليه تقع مسؤولية مقاومتها وإسقاطها.
تحليل هذه الموجة والتخطيط لتفكيكها قد يحتاج فعليا لمجلدات من الدراسات المعمقة, لكن يمكن اختصار أبرز محاور خلفياتها وملامحها وأسباب تأثيرها في التالي:
سياق التراكم التاريخي
بداية لا يمكن فهم هذه الظاهرة بدون الغوص قليلا في التراكم التاريخي المؤدي لها. أولا لابد من التأكيد دوما على أن هذه الظاهرة هي نتاج ثقافي غربي, وليست منتج إنساني عام أفرزه تطور المجتمعات الإنسانية. إنما جذور الظاهرة ترجع إلى الفلسفة المادية البوسفستية positivismوالفلسفة الفردانية التي أظهرتها الثقافة الغربية في ما يسمى حقبة الحداثة ثم ما تلاها مما سمي حقبة ما بعد الحداثة. فإن كانت االحداثة قد بدأت الطريق بالزعم أن الحقيقة لا يمكن الحصول عليها من مصدر غيبي ميتفازيقي, إنما فقط من مصادر حسية قابلة للقياس المادي. فإن ما جاء بعدها في حقبة ما بعد الحداثة نسف فكرة وجود حقيقة مطلقة أساسا, فدعى أن كل شي نسبي بما فيها الحقيقة. وهذه النسبية تعني إعدام أي مرجعية قيمية لتحديد الصواب والخطأ, فكل شيء نسبي بل ومتعدد.
هذه الأطر الفكرية سيكون لها تأثيرات جوهرية على كل المفاهيم الإجتماعية في وقتنا الحالي, فنجد اليوم معظم الشباب الغربي متأثر بنتائج و مخرجات هذا الطرح, دون أن يبحث بشكل نقدي عن صحة هذه الأطر, حيث يتم تشكيله تفكيره ونفسيته على تبني هذه المخرجات من خلال المؤسسات التعليمية والإعلامية. و بحكم أننا نعيش في زمن المركزية الغربية وهيمنتها, فإن عملية التشكيل هذه تنتقل فيما بعد إلى باقي شباب المعمورة من مختلف الثقافات بما فيها شباب المسلمين, وذلك عبر أدوات التأثير والهيمنة الغربية ذات التأثير العالمي والتي سنأتي على تفصيلها.
ملامح مهمة:
المغلوب والغالب
من الثوابت الدائمة في طبيعة المجتمعات البشرية هي ما أكد عليها ابن خلدون من انبهار المغلوب بالغالب وتقليده والتأثر بثقافته. والغلبة المهيمنة للعالم الغربي طوال القرنين الماضيين يجعل كل فكرة رائدة في الغرب تصبح تلقائيا مؤثرة بشكل أو أخر في باقي المجتمعات. لذلك الفكرة المهيمنة ليست بالضرورة الأقوى منطقا أو الأصح أخلاقيا, إنما الأكثر نفوذا.
هذه النقطة مهما جدا في التعامل مع صعود المادية والإلحاد اليوم وما يتفرع عنهما من أفكار وانحرافات إجتماعية. فالحضور القوي لهذه الأفكار ليس لجاذبية مقنعة في الأفكار ذاتها, إنما في ضخها المستمر والحاد من مراكز القوى الثقافية.
الشهوانية
العامل الأخر في صعود هذه الأفكار بالإضافة إلى عامل التأثر بالغالب هو أن هذه الأفكار في جوهرها فعليا تستثير الغرائز والشهوات لا العقل أو الروح. ولذلك كان سياق التمهيد بالمادية مهما حيث أنها تزيح مصادر المقاومة الطبيعية لدى الإنسان التي تمنع الإفراط الشهواني. فإعتبار الغيبيات من الخرافات يعني قتل الروحانية التي تضبط شهوة الإنسان وغرائزه. ويعني كذلك إزاحة المرجعية الأخلاقية للأعراف الإجتماعية الضابطة لشهوات الفرد. فمع قتل الروحانية أو تهميشها على الأقل, ومع ما يتبعها من إزاحة المرجعية الأخلاقية الإجتماعية, نجد أنفسنا بطبيعة الحال أمام إفراط شهواني لا ضابط له مطلقا. فإذا أضفنا له تقديس للفردانية , وإستعلائها على أي ارتباط له بعد إلهي روحي أو بعد اجتماعي لدى الإنسان, فيكون الواقع أن الجاذبية الشهوانية لا رادع منطقي يضبط طغيانها.
أدوات التأثير والهيمنة
بناء على ما سبق, من المهم تحديد أهم أدوات التأثير والسياق الذي تعمل فيه هذه الأدوات. فإن كان للغالب تأثير على المغلوب في كل العصور, فإن تأثير الغالب في العصر الحديث أصبح مضافعا بشكل أسي, وذلك نتيجة أدوات التواصل الحديثة ذات المدى الأبعد جغرافيا والأعمق ذهنيا ونفسيا. وهذا التأثير النوعي يزداد مداه وعمقه مع كل تطور تقني في وسائل الإتصال الحديث وتوالي الأجيال. وعليه يصبح دور الخصوصية الجغرافية/الثقافية في انحسار مستمر. و تعتبر ثنائية التعليم والإعلام العنوان الأبرز الذي يختصر سبل التأثير والتغيير في أي مجتمع البشري, ومن يهيمن عليهما فعليا يسيطر على تشكيل عقل الأفراد المكونين لذلك المجتمع. إلا أنه مع تطور مدى هذه الأدوات لدى العالم الغربي المهيمن, يصبح تأثير من يتحكم فيهما في الغرب ليس مقتصرا على المجتمعات الغربية فحسب, بل على مختلف مجتمعات العالم التي تخضع كلها للمنظومة الإعلامية والتعليمية الغربية.
وتحت بند التعليم والإعلام تندرج تفاصيل كثيرة:
إلا أنه هناك تطور خطير بدأ يظهر في السنوات الأخيرة, فلم يعد هناك إكتفاء بإفراغ الإنسان من مرتكزاته الغيبية والعقائدية في تكوينه التعليمي وتشجيعه نحو الإلحاد, بل أصبحت القوى الراعية للانحرافات الأخلاقية المتطرفة تخترق المنظومة التعليمية بشكل صريح وتفرض تدريس انحرافاتها غير الطبيعية كحقيقة مقدسة ضمن المناهج التعليمية ,بداية من مراحل ما قبل الإبتدائية إلى أعلى درجات الأكاديميا, رغم كل ما تحويه أدبياتها من تناقضات منطقية صارخة ,بغض النظر حتى عن انتكاستها الفطرية والأخلاقية. وأي مخالف لهذه المقدسات الجديدة يتم إقصائه معنويا وماديا. هذا التطور الذي لازال مداه غربيا بالدرجة الاولى حاليا, ستبدأ الحملة لتوسعته دوليا ليشمل التعليم في مختلف المجتمعات حول العالم قريبا جدا.
الصحافة..الراديو..التلفزيون والسينما..الفضائيات..مواقع الانترنت..الموبايلات و تطبيقات الإنترنت.
تسلسل واضح في أبرز أدوات التأثير الإعلامي خلال القرن الأخير. ومع كل تطور يمكن ملاحظة ازدياد المركزية الغربية في كل أداة مقارنة بسابقتها, وازدياد كذلك المدى المكاني والزماني للأداة وتأثيرها الملاصق على الإنسان إذا ما قورنت بسلفها. ومع تزايد سيطرة اليسار الليبرالي في الغرب على هذه الأدوات, تصبح سرديته وأفكاره هي المهيمنة على الأجيال الصاعدة ليس فقط في المجتمع الغربي, بل في كل المجتمعات في العالم التي تتقلص مسافتها الوجدانية عن التأثير الغربي يوما بعد يوم.
تعتبر هذه المقالة إحاطة مختصرة حول أبرز الزوايا المتعلقة بصعود موجة المادية والإلحاد المعاصرة, ويمكن طرح تفاصيل معمقة أكثر تحت عناوين مهمة مرتبطة جوهريا بالموضوع مثل:
الماركسية الثقافية ومدرسة فرانكفورت ,
الثورة الجنسية وامتداداتها ,
الإسلام والإلحاد وحدهما في صعود ,
ألعاب الفيديو ضمن النطاق الإعلامي ,
تزواج الليبرالية والشيوعية وما أنتجه من أفكار معاصرة .