هاوية الكلمة في زمن المنصّات: حين يتحوّل الرأي إلى سلاحٍ للهدم
أ.مصباح الورفلي
لم تعد منصّات التواصل الاجتماعي اليوم مجرّد فضاء للتعبير والتواصل كما وُلدت فكرتها الأولى، بل تحوّلت – بكل أسف – إلى ميدان صراعٍ وتصفية حساباتٍ، تعجّ فيه الكلمات بالسموم، وتختلط فيه الحقيقة بالافتراء، والصوت العاقل بالصخب الموجّه.
إنّنا أمام واقعٍ رقميٍّ يُعيد تشكيل الوعي الجمعي، لكنه – في المقابل – يجرّد الإنسان من مسؤوليته الأخلاقية، فيغدو النيل من الأشخاص والهيئات أمرًا عاديًّا، والافتراء والكذب “وجهة نظر” في عرف البعض.
بين الكلمة والذمّة الأخلاقية
لقد علّمنا ديننا الحنيف أنّ الكلمة ليست عابرة، بل هي موقف ومسؤولية. قال الله تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18].
فما بالُ أناسٍ جعلوا من الكلمة سلاحًا للطعن والتشهير دون بيّنةٍ أو دليل، غير مبالين بقول الله عزّ وجلّ:
﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36].
إنّ ما يجري في فضاء التواصل من تعدٍّ على السمعة وتشويهٍ للمقاصد، لا يندرج في باب “حرية الرأي” كما يُروّج البعض، بل هو خرقٌ لأبسط معايير الأخلاق والمروءة، قبل أن يكون انتهاكًا لمبادئ الدين والإنسانية.
الافتراء الرقمي… مرض العصر الأخلاقي
بات الافتراء على الناس والمؤسسات عادةً سيئة تجتاح الفضاء الإلكتروني، حتى أصبحت “المنشورات” و”التغريدات” أدواتٍ للتشهير والتضليل.
والمؤسف أن هذا السلوك لا يقف عند حدّ الكلمة، بل يجرّ وراءه تداعياتٍ خطيرة على الأفراد والمجتمع؛ فهو يُشيع الشكّ، ويزرع العداوة، ويفسد الثقة بين الناس.
وقد حذّر النبي ﷺ من مثل هذا السلوك فقال: «كفى بالمرء كذبًا أن يُحدّث بكلّ ما سمع» (رواه مسلم).
ومع الانفتاح التقني المتسارع، وظهور الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في تعديل الصور والأصوات والفيديوهات، دخل العالم مرحلة جديدة من “الافتراء المتقن”، حيث يستطيع شخصٌ أن يُنتج مشهدًا مزيفًا أو صوتًا محرّفًا ليبتزّ أو يشوّه أو يضلّل.
وهنا يتحوّل الذكاء الاصطناعي من نعمةٍ إلى نقمة، ومن وسيلةٍ للتطوير إلى أداةٍ للهدم الأخلاقي والاجتماعي.
أثر الظاهرة على السلم المجتمعي
إنّ نتائج هذه الظاهرة لا تتوقف عند الأذى المعنوي للأفراد، بل تمتد لتطال كيان المجتمع بأسره. فحين تنهار الثقة العامة، وتُختزل القضايا الكبرى في منشوراتٍ موجهةٍ ومفبركة، يصبح المجتمع هشًّا، قابلًا للانقسام والتناحر.
ولعلّ أخطر ما في هذه الممارسات أنّها تمهّد لتطبيع الكذب في الوعي الجمعي، وتجعل الافتراء “فنًّا” يتقنه البعض ويصفّق له الجاهلون.
لقد صار من السهل اليوم أن يُشهر بشخصٍ أو جهةٍ لمجرّد خلافٍ فكري أو موقفٍ سياسي، دون أن يُتاح له حقّ الرد أو الدفاع عن نفسه.
تُخلق الأكاذيب، وتُتداول بسرعة الضوء، ثم تُترك آثارها كجروحٍ لا تندمل.
وهنا يكمن الخطر الحقيقي: أن نغدو مجتمعًا يُصدّق كل ما يُقال، ولا يتحرّى ولا يتثبّت، رغم قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6].
الحاجة إلى تشريعٍ أخلاقي وقانوني
لم يعد الصمت تجاه هذه التجاوزات مقبولًا، فترك الحبل على الغارب يعني مزيدًا من الفوضى والانهيار القيمي.
إنّ من واجب مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والمجالس التشريعية وضع قوانين واضحة تجرّم الافتراء الرقمي، وتحدّد المسؤوليات والعقوبات، حمايةً لسمعة الناس وأمن المجتمع.
لكن التشريع وحده لا يكفي؛ إذ لا بد من تربيةٍ رقميةٍ واعية تبدأ من الأسرة والمدرسة، لتغرس في النشء احترام الكلمة وتقديس الحقيقة، لأنّ ضبط السلوك الرقمي لا يكون بالقانون فحسب، بل بالضمير قبل كل شيء.
الكلمة أمانة ومسؤولية
في نهاية المطاف، تبقى الكلمة أمانة، والكتابة شرفًا لا يُنال إلا بالصدق والإنصاف.
قال رسول الله ﷺ: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» (متفق عليه).
فمن كان يحمل قلمًا أو يملك حسابًا أو منبرًا، فعليه أن يتذكّر أنّ الكلمة قد تُحيي نفسًا أو تقتلها، تبني وطنًا أو تهدمه.
وما أحوجنا اليوم إلى أن نُعيد للكلمة قيمتها وقدسيتها، وأن نجعل من منصّاتنا منابر للوعي والإصلاح، لا ساحاتٍ للسباب والافتراء.
إنّ السكوت عن الكذب ليس حيادًا، بل جريمة في حقّ المجتمع.
وإنّ أيّ تساهل في مواجهة هذا الانحدار الأخلاقي لن يقود إلا إلى هاويةٍ تبتلع الجميع.
فلنُحسن القول، ولننشر الصدق، ولنتذكّر دومًا أنّ الله تعالى سائِلُنا عمّا نكتب، كما قال سبحانه: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7–8].




