يحيى السنوار: عصا تمشي على قدمين ورمزيةٌ صنعت جبلاً من أسطورة.

د. وصفي عاشور أبو زيد
بين العتمة والنور.. يولد الرمز
ليست الحكايات العظيمة مما ترويه الألسن فحسب، بل مما تصنعه اللحظات التي يتجمّد فيها الزمن، ويقف العالم أمام مشهدٍ واحدٍ ليقول: هنا تتشكّل الأسطورة،ولعلّ من أعجب ما شهده عصرنا أن تتحوّل عصا إلى رمزٍ يجلجل في الضمائر، ويهزّ ثوابت المحتلّ، وترتعد منه حسابات الجيوش العظمى. تلك هي عصا يحيى السنوار؛ الرجل الذي خرج من بين جراح غزة ليصبح أحد أبرز قادة معركة طوفان الأقصى، المعركة التي ستظلّ علامةً فارقة في سجلات التاريخ، وستُكتب على أنها إحدى لحظات الانقلاب الاستراتيجي في صراع الإرادات بين الاحتلال وشعبٍ لا يُهزم.
ما كان السنوار يومًا قائدًا من وراء المكاتب ولا من خلف الشاشات، بل كان رجلًا من طينة الميدان، من تعب الأزقة، ومن صبر الأنفاق، ومن وجوه الناس حين يضيق بهم المكان ولا يضيق بهم الأمل، وحين بثّت وسائل الإعلام تلك المشاهد المتتابعة له –يتحرّك بسلاحه، يعبر بين الركام، يواجه العدو بعينٍ ثابتةٍ لا تعرف التردّد – بدا كأنه جزءٌ من مشهد أكبر من ذاته، جزء من روح غزة نفسها، ومن قلب المقاومة ذاتها، ومن ذاكرة شعبٍ يرفض أن يَفْنَى أو يُنسى أو يُستسلم.
كان يظهر كأنه يحمل كلّ حجار غزة على كتفيه، يمشي متّئدًا، يتلفّت بحذر، ثم يبتسم ابتسامة خفيفة تُشبه ما يسبق العاصفة، ومع كل ظهورٍ له، كانت الأسئلة تتدفّق: كيف لرجلٍ حمل السجن عشرات السنين أن يعود بهذه الصلابة؟ وكيف لجسدٍ أنهكته التعذيب والزنازين أن يصبح بهذه القدرة على إشعال المخاوف في قلوب العدو؟ وكيف لعصا أن تتحوّل إلى سيفٍ رمزي يفلّ جيوشًا ويهزّ عقيدة احتلال؟
العصا التي هزّت الطائرة
ثم جاء المشهد الأخير… ذلك المشهد الذي لن يُنسى: طائرة للعدو تحوم فوق رأسه، سماءٌ مليئة بالموت، أزيزٌ يقطع الهواء، جنديٌّ محاصر لا يجد إلا عصاه، ثم رمى بها بكل ما بقي له من قوة، رماها كأنها سهْمٌ من نار، كأنها كلمة أخيرة تُقال في وجه العالم كلّه، وما كانت تلك العصا لتسقط الطائرة؛ فذلك ما يعلمه كل عاقل، لكنها أسقطت شيئًا أهم: أسقطت هيبة العدو، وكشفت زيف جبروته، وفضحت هشاشته أمام رجلٍ أعزل إلا من إيمانه.
لا غرابة في أن تهتزّ المنصّات العالمية بعد تداول هذا المشهد، فالعصا التي ألقاها السنوار لم تكن خشبة، بل كانت منهجًا، وكانت رسالة، وكانت سُنّة ربانيةتُذكّرنا بتلك اللحظات التي يختبر الله فيها عباده، فيأمرهم بأسبابٍ لا تُنتج وحدها أثرًا ماديًا، ولكنها تُنتج أثرًا إيمانيًا يصنع الفرق. إنها ذاتها سُنّة الأخذ بالأسباب التي علّمها الله لمريم عليها السلام حين كانت ضعيفة منهكة، تحمل آلام الولادة وتُصارع الوحدة، ثم أُمِرت بما لا تستطيعه: }وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ {، ما كانت مريم بقوةٍ تهزّ جذع النخلة، ولكن الله أراد أن يعلّمنا: افعل ما عليك، ولو كان ضعيفًا، وسأكمل عنك ما لا تستطيع، وهكذا كانت عصا السنوار: افعل ما تستطيع، وسأكمل عنك ما يُعجز البشر.
الطوفان الذي يسبق التحوّل
معركة طوفان الأقصى لم تكن مجرّد حدث عسكري، بل كانت إعلانًا لإعادة صياغة التاريخ، وإعادة تعريف المعركة، وتغيير قواعد الاشتباك، ونقل الصراع إلى مستوى لم يعرفه الاحتلال من قبل. وكان السنوار أحد أعمدة هذا التحوّل؛ رفض الاستسلام، وأصرّ على أن تبقى غزة مقاومة حتى آخر رمق، وآمن بأن ما بعد الطوفان لن يكون كما قبله، لا في فلسطين، ولا في الإقليم، ولا في العالم. تغيّرت الرؤية الدولية، وتبدّلت التحالفات، واضطربت معادلات الأمن القومي لعدة دول، وصار المحتلّ يعيش أسوأ أيامه، في حين اكتشف العالم أن شعبًا محاصَرًا بإمكانه أن يُحرج جيوشًا وأساطيل وإعلامًا عالميًا، وأن يعيد تعريف مفهوم “النصر“، و“الصمود“.
السنوار… رجلٌ في مواجهة الأساطيل
لم يكن السنوار يحمل جيشًا جرّارًا ولا ترسانة نووية، بل كان يحمل: يقينًا لا يتزعزع، عصا، سلاحًا خفيفًا، أرضًا تحفظه، شعبًا يحرسه، وقضيةً تحمله، وكم من مرة رأيناه في المشاهد التي بثّها الإعلام – يمرّ بين الأنقاض، يطلّ من خلف ساتر، ينشد شعرًا، يحمل سلاحًا بدائيًّا مقارنة بأسلحة العدو – لكن تلك المشاهد كانت كافية لزرع الرعب في قلوب الاحتلال، الذي بدا كأنما يحارب شبحًا لا يُقهر.
حين تصبح العصا رسالة للعالم
لم يكن السنوار يستعرض قوة؛ بل كان يرسل رسالة واحدة: “أننا نقاتل حتى آخر سبب، وأن السبب الأخير قد يكون عصا… ولكنه سببٌ نتقرّب به إلى الله قبل أن نتقرّب به إلى النصر“. هذه الرسالة ليست للفلسطينيين وحدهم، بل للعالم كله، ولعلّ أكثر ما أخافَ الاحتلال أنّ هذه السُنّة الإلهية – سنة الأخذ بالأسباب مهما صغرت – تُنتج رجالًا لا يُهزمون؛ لأنهم لا يُقاتلون بأسلحتهم فقط، بل بإيمانهم.
رمزية العصا… من مريم إلى موسى إلى السنوار
العصا في الثقافة القرآنية ليست مجرد أداة، بل رمزٌ يتكرّر في لحظات التحوّل الكبرى: عصا موسى التي شقّت البحر، وعصا مريم الرمزية حين هزّت جذع النخلة، وعصا السنوار التي لم تُسقط طائرة، لكنها أسقطت وهْمًا كبيرًا، إنها العصا ذاتها، تتكرر في التاريخ، لا لأنها تصنع المعجزات، بل لأنها تعلن الولاء للسنة الإلهية العليا: افعلْ ما عليك، واعلم أن النصر من عند الله تعالى.
الاتساق مع السنن الإلهية لتحقيق المقاصد في التحرير
إنّ مشهد السنوار وهو يلقي عصاه نحو الطائرة ليس لحظة استثنائية في سلوك فرد، بل هو تعبير عميق عن انسجامٍ كامل مع سنن الله في الكون، تلك السنن التي تربط بين السبب والغاية، وبين الفعل الإنساني واللطف الإلهي، وبين جُهد البشر وعطاء السماء؛ فالأمم لا تُحرّر أرضها بالشعارات، ولا تُنتزع الحرية بالانتظار السلبي، بل تُنال حين تتكامل الأسباب المادية مع المقاصد الربانية في حركةٍ واحدة تشهد أن هذا الكون يقوم على القسط والعدل، وأن الله لا يُضيّع عمل العاملين، ولا أجر المحسنين.
وليس الأخذ بالأسباب في لحظة المواجهة – ولو كانت عصًا ضعيفة – إلا إعلانًا عن خضوع قلب المؤمن لسنّة الله التي قضت بأن يكون للإنسان دورٌ في صناعة التغيير، مهما بدا صغيرًا أمام ضخامة العدو، ولقد رأينا هذا الاتساق في لحظات فارقة من التاريخ: في هزّة مريم لجذع النخلة، وفي ضرب موسى البحر بعصاه، وفي انطلاق الفتية إلى الكهف، وفي خروج إبراهيم إلى النار، وفي التراب الذي حثاه النبي في وجوه الكفار حين بدأ مشوار الهجرة، وفي كل تلك المشاهد، لم يكن السبب وحده كافيًا لتحقيق النتيجة، لكنه كان جسرًا مقدّسًا يَعبُر الإنسان عليه نحو النصر، ويبرهن به صدق توكّله على ربه، وهكذا كانت عصا السنوار – في رمزيتها الكبرى – جزءًا من هذا الجسر، تحمل المعنى ذاته: أن التحرير لا يتحقق بالتمني، ولا يصنعه الانتظار، وإنما تصنعه الإرادة حين تنسجم مع السنن الإلهية في الحركة، والتخطيط، والمواجهة، والصبر، والمصابرة.
وإن الاتساق مع السنن الإلهية قانون حضاري، وعندما تلتزم المقاومة بهذا القانون، يصبح التحرير مقصدًا قريبًا، لا بعيدًا؛ لأن الأمة التي تفهم سنن ربها في الكون هي الأمة التي تعرف كيف تُدير معركتها، وتبني وعيها، وتحشد طاقاتها، وتضع كل لبنة في جدار التحرير الشامل: تحرير الأرض، والإنسان، والمقدسات، والأسرى، والمسرى.
السنوار… آخر الرجال الذين يمشون على النار
من يتأمل سيرة السنوار يدرك أنه رجلٌ لا يعرف المساومة على كرامة شعبه؛ حيثخرج من السجن بعدما أمضى ثلاثة عقود، لكنه خرج بقلبِ شابّ وروحِ مقاتل، كأنما أعيد خلقه من جديد لأجل هذه اللحظة التي ستهزّ العالم، ولم يكن ظهورُه في الميدان مفاجئًا، ولا حملُه السلاح غريبًا، ولا ثباتُه تحت الطائرات المُغيرة أمرًا عاديًّا، بل كان ذلك تتويجًا لمسيرة حياةٍ آمنت بأن من عاش لله، عاش قويًّا ولو كان أعزل.
ما وراء المشهد… وما بعد العصا
لن يتوقف التاريخ عند تفاصيل المشهد وحده، بل عند ما بعده: عند فكرة أن المحتلّ بكل عتاده لم يهزم رجلًا يحمل عصا، وعند يقين أن الصفقة القادمة لتحرير الأسرى ستُكتب بشروط الفلسطيني لا المحتل، وعند إدراك العالم أن المقاومة ليست حدثًا، بل مشروعًا، وعند تذكير الشعوب بأن التحرير يبدأ بفكرة، ويمشي على قدمين، ويمسك عصًا صغيرة… لكنها تُكسّر جبالًا من الخوف.
العصا… وصناعة الأسطورة
ليس من السهل أن يتحوّل قائدٌ إلى أسطورة دون أن يصنع حوله هالة من السرديات، لكن السنوار لم يحتج إلا إلى مشهد واحد، رمزي واحد، لحظة واحدة: حين واجه الطائرة بالعصا، ومن رحم تلك اللحظة وُلدتْ أسطورتُه: أسطورة رجلٍ لا يملك إلا أن يقول للعالم: أنا هنا، ولن أرحل، ولن أستسلم، وما دامت العصا في يدي، فإن غزة بخير.
خاتمة… ما بعد العصا هو ما قبل النصر
وسيكتب التاريخُ يومًا أن رجلاً من غزة وقف يحمل عصاه في وجه طائرة، فصار هذا المشهد مفتاحًا لتحولات كبرى في الوعي العالمي، وسيكتب أن هذا المشهد لم يكن مجرد حركة جسد، بل حركة روح، وأن الروح إذا تحركت لا تُهزم، وسيبقى السنوار – مثل كل رجال فلسطين – يمشي في الظل، ولكن ظله أطول من جدار العنصرية، وأوسع من سماء المحتل، وأعمق من ذاكرة العالم، وستبقى عصاه رمزًا خالدًا؛ لأنها لم تُلقَ على الطائرة فحسب، بل أُلقيت على زيف القوة، وعلى استبداد الجيوش، وعلى هشاشة الاحتلال، وعلى خذلان الأقارب، وعلى أوهام العالم.




