🔖 ️نحو إحياء الدور الحضاري للمسجد في المجتمع

“بناء الساجد قبل المساجد”
أ. محمد العوامي
المسجد في التاريخ الإسلامي لم يكن مجرد مبنى تُقام فيه الصلوات، بل كان قلبًا نابضًا للحياة المجتمعية، ومدرسةً لبناء الإنسان، ومنصةً لتحقيق التكافل الاجتماعي.
لكن الفجوة بين الماضي والحاضر تطرح تساؤلًا جوهريًّا: هل نبنِي اليوم المساجدَ قبل أن نُعِدَّ الساجدين القادرين على حمل رسالتها؟
المسجد في العهد الإسلامي كان مركز إشعاع متكامل، كان المسجد مؤسسةً متعددة الوظائف، تجسيدًا لقوله تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ (النور: 36). فإلى جانب الصلاة، كان المسجد:
– مدرسةً لتعليم القرآن والعلوم الشرعية، حيث تخرج منه علماء مثل الإمام الشافعي وابن تيمية.
– منصةً لإصلاح ذات البين، كما كان يفعل النبي ﷺ حين يحل الخلافات بين الصحابة.
– حاضنةً للتفاعل الاجتماعي، من إبرام عقود الزواج إلى تنظيم الحملات الإغاثية.
– رمزًا للوحدة، يجمع بين الفقير والغني تحت سقف واحد، مُذكِّرًا بقيم العدل والتواضع.
في الإسلام، بناء الإنسان مقدم على بناء المكان، فقد بدأ النبي ﷺ في بناء العقيدة وترسيخ القيم في القلوب قبل أن يضع لبنات المسجد النبوي.
ومن هنا نفهم أن بناء الساجد قبل بناء المساجد هو أساس النهضة الحقيقية.
بناء الإنسان قبل بناء المكان:
عندما هاجر النبي ﷺ إلى المدينة، كان أول ما قام به هو تأليف القلوب وتعزيز الإيمان بين الصحابة، فلم يكن هدفه مجرد إنشاء بناء، بل إعداد مجتمع يؤمن بالله ويعيش وفق تعاليمه. بعد ذلك، بدأ في بناء المسجد النبوي، لكن هذا البناء لم يكن حجرًا وزخرفة، بل كان مركزًا تربويًا وتعليميًا ودعويًا، يخرج جيلًا من الصحابة الذين حملوا راية الإسلام إلى العالم.
هذا المنهج يضع أمامنا قاعدة مهمة:
المسجد لا يعمره إلا الساجدون حقًا، ومن دون بناء الإنسان، يبقى البناء فارغًا بلا روح.
▪️العمارة الحقيقية للمساجد بين الجدران والقلوب:
يقول الله تعالى:
{إِنَّمَا یَعۡمُرُ مَسَـٰجِدَ ٱللَّهِ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمۡ یَخۡشَ إِلَّا ٱللَّهَ فَعَسَىٰۤ أُو۟لَـٰۤىٕكَ أَن یَكُونُوا۟ مِنَ ٱلۡمُهۡتَدِینَ} (التوبة: 18).
هذه الآية توضح أن عمارة المساجد ليست فقط بالبناء المادي، بل بالإيمان والعمل الصالح. فإذا لم يكن هناك من يُعظّم شعائر الله ويؤدي حقها، فإن المساجد تتحول إلى مجرد مبانٍ صامتة، مهما بلغ جمالها.
لقد رأينا في التاريخ الإسلامي كيف أن بعض الأمم شيدت مساجد ضخمة، لكنها بقيت خاوية، بينما نجد مساجد بسيطة لكنها تعج بالركع السجود، لأن القلوب الحية هي التي تعمر المساجد، لا الحجارة والزخارف.
▪️مظاهر الاهتمام بالشكل دون الجوهر:
في بعض المجتمعات، أصبح هناك تركيز كبير على بناء المساجد الفخمة، بينما تغفل الجوانب التربوية والإيمانية للأفراد، مما قد يؤدي إلى مشكلات مثل:
• كثرة المساجد وقلة المصلين: نشاهد في بعض الأماكن مساجد ضخمة، لكنها تكاد تخلو من المصلين، والسبب ضعف الوعي الديني وقلة الاهتمام ببناء الإنسان.
• الاهتمام بالمظهر دون الجوهر: حذر النبي ﷺ من هذا حين قال:
“لا تقومُ السَّاعةُ حتَّى يتَباهى النَّاسُ في المساجِدِ” (أخرجه أبو داود (449)، وابن ماجه (739) واللفظ لهما، والنسائي (689) بنحوه).وفي هذا استنزاف الموارد في بناء مساجد جديدة دون تطوير برامج تخدم روادها.
• ضعف الارتباط الروحي بالمساجد: حيث تتحول المساجد إلى أماكن تقام فيها الصلوات شكلًا، دون التأثير العميق على النفوس والسلوك مما أدى إلى انفصال المسجد عن هموم المجتمع، فصار بعضها منعزلًا عن قضايا الشباب والأسر.
• ضعف التأثير الأخلاقي: حيث لا تتحول العبادة إلى سلوكيات يومية.
▪️كيف نبني الإنسان قبل بناء المسجد؟
1. التربية الإيمانية العميقة:
قبل أن نفكر في بناء مسجد جديد، علينا أن نسأل: هل هناك من سيعمره بالعبادة والخشوع؟ يجب أن نركز على تعليم الناس معنى العبودية لله، وتعزيز علاقتهم بالقرآن، وتربية الجيل على حب الصلاة والارتباط بالمساجد.
2. المساجد ليست مجرد مكان للصلاة؛
يجب أن تكون المساجد مراكز للتعليم والدعوة والإصلاح المجتمعي، تمامًا كما كان المسجد النبوي في عهد النبي ﷺ. فالرسول لم يجعل المسجد مكانًا للصلاة فقط، بل جعله مدرسة تخرج العلماء والمصلحين والمجاهدين.
3. غرس تعظيم المساجد في النفوس:
كما قيل: “إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان”.
وهذا يدل على أن التعلق بالمساجد ليس مجرد حضور جسدي، بل علامة على حياة القلب وقوة الإيمان.
4. الاهتمام بتنشئة جيل يعمر المساجد:
لا يكفي أن نبني المساجد، بل يجب أن نربي أطفالنا وشبابنا على حبها، بأن نخصص برامج تعليمية ودورات تدريبية تعزز فيهم قيم العبادة والخشوع والتقوى.
■ المساجد تبنى بالقلوب قبل الجدران:
المساجد رمزٌ لحضارة الإسلام، لكن قيمتها الحقيقية ليست في ضخامتها، بل في عدد الساجدين الخاشعين فيها. فإن أردنا نهضة إسلامية حقيقية، فلنبدأ ببناء الإنسان الذي يعمر المسجد بروحه وسلوكه، قبل أن نبني المآذن والقباب.
المعادلة واضحة:
✔️ مساجد بلا ساجدين = أبنية فارغة.
✔️ ساجدون بلا مساجد = قلوب عامرة بالإيمان.
✔️ ساجدون ومساجد = نهضة روحية حقيقية.
المساجد للعبادة وتحقيق تجاوز الذات، وللقضاء على الأنانيات المختلفة، وبناء جسور الرحمة والمحبة والتعاون؛ فقد كان المصلى أو المسجد الصغير -وإلى عهد قريب- حاضنة اجتماعية مهمة لتعليم القرآن وتعليم الناشئة وأداء الصلوات الخمس وإبرام عقود الزواج وفك الخصومات وإصلاح ذات البين و زرع القيم النبيلة التي تترجم في السلوكات و المعاملات قصد تحقيق الوحدة والتعارف ولم شمل الأمة، ويكون الإنسان ذا ثقافة شرعية واجتماعية وواقعية ممتازة، ويتمتع بشخصة قوية، والحق أن هذا ما كان معمولا به في عهد الدولة الإسلامية إلى عهد قريب، ولا تزال آثاره في بعض المدن الكبيرة إلى الآن.
☑️ فلنحرص على بناء الساجد، فهو الذي يجعل للمساجد روحًا ومعنى.