مقالاتمقالات فكرية

أخـلاق العبيـد

هل رأيت العبيد يؤسسون يوماً حزباً سياسياً؟ وهل يجوز للعبيد حمل السلاح؟ وإذا كانت الإجابة عن هذين السؤالين سهلة فالسؤال الصعب الذي نجحت الحضارة الغربية في التعامل معه هو: كيف يمكن أقناع أبناء المسلمين بجدوى أخلاق العبيد، حتى لا يشكلوا حزباً، أو يحملوا السلاح، مثل الأحرار؟
السؤال الأخير هو التحدي الذي تواجهه الحضارة الغربية باستمرار، وقد نجحت في مواجهته حتى الآن باقناع غالبية المسلمين بجدوى أخلاق العبيد، بحيث تخلت هذه الغالبية عن الحرية بإرادتها الحرة – في الظاهر- لأن باطن الأمور ينبئ بأن تبني أبناء المسلمين لأخلاق وسلوك العبيد ليس سوى التعبير عن ارادة مستلبة ومستبدلة! والإرادة المقصودة هي ارادة الفطرة السليمة، إرادة الحرية التي فُطر الناس عليها، والتي تم استبدالها بالعبودية وأخلاق العبيد!
قد يُجبر الإنسان على التنازل عن حريته والتحول إلى عبد باستخدام العنف، لكن ليس هذا كل ما نجحت فيه الحضارة الغربية تجاهنا فهي (على خلاف الأنظمة القمعية التي تبدأ بالعنف وتنتهي به) قد استخدمت ولازالت تستخدم القوة الناعمة: قوة الخطاب الموجه للعقل قصد تشكيله وفق رؤية معينة. والرؤية محل النظر من جانبي، ومحل التطبيق من جانب الحضارة الغربية، هي رؤية المسلم في موقع العبد التابع للحضارة الغربية، وربما حتى الفخور بالتبعية لها باسم “الصداقة”، أو بمسمى آخر كـ”الشراكة” أو “الحرب على الإرهاب”، فاللعب على المصطلحات من أدوات الصراع الإيديولوجي!
وفي ما يلي من فقرات سأهتم بالتعليم الغربي باعتباره القوة الناعمة التي تشكل شخصية المتعلم المسلم وتغرس أخلاق العبيد في نفسه! وتقوم وسائل الإعلام على مدار الساعة بتعزيز وتثبيت وتزيين ما يغرسه التعليم في نفوس أبناء المسلمين، غير أن وسائل الإعلام ليست في نطاق اهتمامي هذه المرة، لكني لست غافلاً عن دورها.
أولاً. تعليم العبيـد.
في ثلاثينيات القرن العشرين كان مالكم اكس (1925-1965) تلميذاً شديد الذكاء حتى أن زملاءه اختاروه عريفاً للفصل. ثم جاء اليوم الذي سأله فيه المدرس عن ماذا يريد أن يكون عندما يكبر، فرد مالكم بأن رغبته هي أن يصبح محامياً، فجاء تعليق المدرس على النحو التالي:
“مالكوم؛ أول ما نحتاجه في هذه الحياة هو أن نكون واقعيين. والآن لا تفهمني خطأ. نحن جميعاً نحبك، وأنت تعرف ذلك. ولكنك كإنسان أسود لابد أن تكون واقعياً. محامي… ذلك ليس خياراً واقعياً للأسود. عليك التفكير في شيء بإمكانك أن تكونه. أنت جيد في استخدام يديك.. في صنع الأشياء. الجميع هنا معجب بأعمال النجارة التي تقوم بها، لماذا لا تتوجه للنجارة؟ الناس تحبك كشخص.. وستحصل على كل أنواع العمل.”! وفي نصها الأصلي جاءت العبارات على النحو التالي:
Malcolm, one of life’s first needs is for us to be realistic. Don’t misunderstand me, now. We all her like you, you know that. But you’ve got to be realistic about being a nigger. A lawyer… that’s no realistic goal for a nigger. You need to think about something you can be. You’re good with your hands… making things. Everybody admires you carpentry shop work. Why don’t you plan on carpentry? People like you as a person.. you’d get all kinds of work.
“الواقعية”ـــ الفكرة التي استخدمها المدرس لإقناع مالكوم بأن طموحه يتجاوز المسموح به للعبيد، هي ذات الفكرة التي كانت وراء دعوة بورقيبة للاعتراف بإسرائيل، وهي ذات الفكرة التي دفعت السادات للاعتراف بها فعلاً! لا أحد يدرك أن بورقيبة والسادات قد وصلا رئاسة الجمهورية كمكفأة على أخلاق العبيد (الواقعية) التي تحليا بها، وأن واقعية وسلوك العبيد هو الذي أوصلهم إلى القصر الجمهوري وسط تصفيق المغفلين. والفضل في هذا المنجز للتعليم الذي يحطم الأحرار ويمكن العبيد من السلطة والثروة، في مشهد سريالي لا تدركه العين المجردة.
ما يقوم به التعليم الفرنسي وما يقوم به التعليم الأمريكي شيء واحد، فبينما كان التعليم الأمريكي يحطم آمال مالكوم أكس في أن يكون محامياً في الولايات المتحدة، كان التعليم الفرنسي يحطم آمال مالك بن نبي في أن يصبح محامياً في الجزائر. غياب استعدادات العبيد التي ينتظرها التعليم الفرنسي من أمثال مالك بن نبي وينتظرها التعليم الأمريكي من أمثال مالكوم أكس هي ما حال بين التلميذين وبين حلمهما في الاشتغال بالمحاماة. وما لم يجده التعليم الفرنسي في مالك بن نبي وجده في الحبيب بورقيبة. وما لم يجده التعليم الأمريكي في مالكوم أكس وجده في مارتن لوثر كنغ (راجع “الثقب المعرفي” و”نسخة سوداء من الرجل الأبيض”). مالك بن نبي ومالكوم أكس دفعا ثمن الحرية بينما ينعم غيرهم بخيرات العبودية، ومن بينها بريق النجومية الخادع!
خيرة الله لنا خير من خيرتنا لأنفسنا، فلو تمكن مالك ومالكوم من الاشتغال بالمحاماة لما وضعانا على طريق التحرر في عالم الأفكار الذي لن يحصل بدونه تحرر في عالم الاشخاص أو عالم الأشياء. وما تعلمته أنا من الحاج مالك الشباز والحاج مالك بن نبي هو أن لا أكون دابة استهلاكية تعيش على أفكار الأخرين، وبين يدي رسالة السماء!
ما كتبه مالك بن نبي لم يكتبه العبيد الذي تخرجوا في هارفرد أو اكسفورد ويعملون بالمحاماة في واشنطن أو لندن، أما الحاج مالك الشباز فقد فكر في جرجرة الولايات المتحدة إلى الأمم المتحدة كي تعامل كدولة تضطهد السود على أرضها على النحو الذي تمارسه الدول الاستعمارية (بريطانيا، فرنسا، البرتغال..إلخ) في أفريقيا، وهو ما لم يفكر فيه العبيد الذين تخرجوا في السربون أو كمبردج ويعملون قضاة في محكمة العدل الدولية.
وقبل الدخول في المواجهة بين العبيد والأحرار من أبناء المسلمين لابد أن أضع خط تحت حقيقة أن التعليم الغربي ليس مجاناً، وإن تخيلنا ذلك، فالحرب بين المسلمين هي ثمن التعليم الغربي الذي يفرز العبيد من الأحرار، ويمّكن العبيد من السلطة، ثم يسلطهم علينا، ليدفع الأحرار ثمن الحرية من دمائهم وأموالهم.
ثانياً. سلوك العبيد.
مع نهاية العقد الثالث من القرن العشرين كانت الفكرة الإصلاحية تلفظ آخر أنفاسها في برقة، وتولد من جديد في مصر. لفظت الفكرة الإصلاحية (السنوسية) آخر أنفاسها باستشهاد قائد الإخوان السنوسيين (عمر المختار) بينما كان عمر الإخوان المسلمين في مصر ثلاث سنوات. كان المؤسس هذه المرة حسن البنا، الذي انتقل بالفكرة الإصلاحية من الأخوان السنوسيين إلى الإخوان المسلمين، مثلما انتقل محمد بن علي السنوسي بالفكرة الإصلاحية من الإخوان الوهابيين إلى الإخوان السنوسيين. كل ما فعله البنا هو نقل الفكرة الإصلاحية إلى العالمية بتخليصها من الانتساب إلى الأشخاص (ابن عبد الوهاب وابن السنوسي). وبعد عشرين سنة من هذه النقلة دفع البنا ما يدفعه الأحرار ثمناً لبقاء الفكرة الإصلاحية (فكرة الأخوة في الله والإسلام) حية بين المسلمين، ويحتاج الأمر هنا شيء من التفصيل.
في سنة 1943 أرسلت بريطانيا أحد علماء الإنسان (واسمه إيفانز برتشارد) إلى برقة لتقييم الحركة السنوسية، فاكتشف أن جذورها لازالت حية في المجتمع الذي استقبلها قبل قرن من الزمان (1843). اشترطت بريطانيا على إدريس السنوسي حل الحركة السنوسية ليتولي الإمارة في برقة فأجابها إلى ما اشترطت وتولى الإمارة سنة 1949! وفي ذات السنة دفعت بريطانيا حكومة الملك فاروق إلى تصفية الحركة الإصلاحية في مصر فقتلت حكومة فاروق حسن البنا.
بريطانيا التي اشترطت على اتاتورك إلغاء الخلافة لإنهاء الفكرة التي جمعت المسلمين ثلاثة عشر قرناً هي ذاتها التي فرضت على الملك فاروق قتل البنا في مصر، وعلى إدريس السنوسي إنهاء الحركة السنوسية في برقة، كي تبقى الأمة الإسلامية ياجوج وماجوج.. كما نرى الآن. الفكرة التي تبنى عليها الدول هي النظام والتنظيم، وقد ضرب تنظيم الفكرة الإصلاحية في مصر وليبيا في نفس السنة (1949) تمهيداً لوصول العسكر!
لا أعتقد أن هناك من تحدث عن الحرية أكثر من عبد الناصر سوى تلميذه في ليبيا، ولا أعتقد أن هناك من استعبد شعبه أكثر من عبد الناصر سوى القذافي! العداوة التي ابداها عبد الناصر ومن بعده القذافي لفكرتي النظام والتنظيم (الأحزاب على وجه الخصوص) لا نظير لها، وما كان لعبد الناصر أو القذافي أن يستمرا لولا حملة أخلاق العبيد الذين تخرجوا في الجامعات العربية والأوربية. هولاء لا يكتفون بتحويل أهواء الطواغيت إلى تشريعات، وإجراءات تقاضي، لمحاكم تحكم على الأحرار بالإعدام، وإنما يهاجمون الأحرار بأثر رجعي ويحاكمونهم في قبورهم، على تفكيرهم في حمل السلاح لإخراج المحتل. غير أن حمل السلاح بدون نظام أو تنظيم هو السب في اقتتال ياجوج وماجوج الذي نراه الآن، وهو ما يختلف عن حمل السلاح في تنظيم السنوسية ببرقة، وحمل السلاح في تنظيم الإخوان المسلمين في غزة.
كان ابن السنوسي يرى ايطاليا وهي تتأهب للانقضاض على ليبيا، وكان البنا يرى بريطانيا وهي تجثم على قلب مصر، ويرى اليهود وهم يتأهبون لاحتلال فلسطين، فهل يليق بحر أن يقف موقف العبيد ولا يبالي بما يحصل للمسلمين وبلاد المسلمين؟ والقضية لا تقف عند السنوسي أو البنا فعز الدين القسام كان يفكر في الالتحاق بعمر المختار قبل نشوب القتال مع اليهود في فلسطين، واليهودي الذي دخل الإسلام (محمد أسد) وضع نفسه في خدمة السنوسية فوراً. بالنسبة لعز الدين القسام ومحمد أسد السنوسية كانت تنظيم الأحرار الذي يخوض معركة الإسلام الأخيرة في زمانهم!
ما دافع عنه أو شارك في الدفاع عنه القسام وأسد هو الفكرة الإصلاحية التي شكل الاخوان الوهابيون والاخوان السنوسيون والاخوان المسلمون فيها سلسلة مترابطة الحلقات في مواجهة الغزو الصليبي السافر، الذي سيتحول بعدها إلى مقنع (ثقافي) من خلال التعليم الذي يحول ابناء الأمة إلى عبيد بقوة الفكر وليس قوة السلاح.
وفي سياق أثر الفكر على مصير المفكر كان كل من صالح بن يوسف، والهادي نويرة، والحبيب ثامر، وبلافريج، وميلاد بن ميلاد، ومحمد الفاسي، والبلهوان، وفريد زين الدين زملاء مالك بن نبي في الدراسة. وتبوأ جميعهم الوزارة ورئاسة الوزارة، في دولة الاستقلال، لكنهم لم يخدموا الفكرة الإسلامية، وقضية الحرية كما خدمهما مالك بن نبي. لم يتبوأ مالك بن نبي أي منصب يذكر ليس لأنه فاقد للمؤهل العلمي، وإنما لأنه فاقد المؤهل الذي يجعل العبيد زعماء في دولة “العبودية هي الحرية” التي صورها جورج أورويل في رواية “مزرعة الحيوانات”. وهذا المؤهل يسميه مالك بن نبي “القابلية للاستعمار” وأسميه أنا “أخلاق العبيد”! أخلاق العبيد هي التي وضعت أصحابها ليس في السلطة وحسب، وإنما في موقف عدائي مع الأحرار من أبناء الأمة المسلمة.
لقد تم اختيار السلطة الفلسطينية ممن تحلى بأخلاق العبيد، وجيء بهم لفيفاً لوأد انتفاضة غزة بقيادة شيخ الأحرار، أحمد ياسين. ولكن لا يحيق المكر السيء إلا بأهله؛ إذ انتصر الأحرار وبقى العبيد في ريبهم يترددون. شيخ الأحرار تعلم في الأزهر، والتحق بجماعة الإخوان المسلمين، فربى جيلاً، وكون تنظيما مسلحا، ليقينه أن فلسطين لن يتحرر منها شبرا واحدا بأغاني العبيد. وإذا كان القاريء يذكر مشهد عمر المختار وهو يعد غرتسياني بموقف الأحرار من الأجيال اللاحقة، فسيدرك أن ما قام به شيخ الشهداء في غزة هو ما وعد به شيخ الشهداء في برقة.
شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى