أهل السنّة بين حجمهم التاريخي وواقعهم المعاصر.. التحديات والواجبات.
أهل السنّة بين حجمهم التاريخي وواقعهم المعاصر.. التحديات والواجبات.
د. وصفي أبوزيد
يمثل أهل السُّنة من المسلمين أكثر من 90%، وقد كانوا عبر التاريخ هم الحاضنة الكبرى والأم العظمى لكل تيارات الإسلام العقدي والسياسي والدعوي؛ حيث عاشت كل الفرق والتيارات بل أصحاب الرسالات الأخرى من غير المسلمين في ظل رعاية أهل السُّنة الذين احتضنوا الجميع، وأفسحوا لهم المجال ليساهم كل تيار وفصيل بما يحقق حياة آمنة، ويصنع حضارة إنسانية راقية.
كان أهل السُّنة والجماعة عبر التاريخ هم الحافظين للدين؛ ينفون عنه تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين، كانوا يؤصلون المفاهيم، ويضبطون الأفكار، ويردون الشبهات، ويدافعون عن الملة والأمة، وباختصار كانوا هم الممثلين للإسلام والمتحدثين باسمه.
أهل السُّنة والتحديات
ومن ظُلم أهل السُّنة لأنفسهم أن يضعوا أنفسهم في مواجهة أحد داخل دائرة الإسلام، ويُقزِّموا أنفسهم؛ حيث إن الكبير والعظيم لا يضع نفسه في مواجهة القليل الصغير لولا أن غير أهل السُّنة أصبحوا متمكنين، يظاهرون عليهم غيرهم، ويلقى هذا الغير الدعم السياسي والمالي من جهات قوية ودول غنية وتيارات تود أن تسحق أهل السُّنة.
هناك أموال طائلة تنفق لحرب جماعات أهل السُّنة والجماعة، وبخاصة تلك التي ترفع راية «الإسلام السياسي» كما تسمى إعلامياً؛ وذلك لأنهم أصحاب مشروع يعادي «الصهيوأمريكية» العالمية، فمهما كانت هذه الحركات والجماعات تعاني من عيوب ومشكلات تظل هي العدو الأول والأكبر للصهيوأمريكية العالمية وعملائها في الشرق والغرب.
ومن التحديات الخطيرة التي تواجه أهل السُّنة والجماعة أنهم لا دولة قوية تحمل مشروعهم؛ تخطط لهم، وتنشر مذهبهم، وتربي علماء عليه وله، يبشرون به ويحملون رايته، بل الكثير من دولنا العربية والإسلامية في عداء مع علماء أهل السُّنة والجماعة، يطاردونهم، ويعادونهم، ويجففون منابعهم، بل تصل الحال بهم إلى اعتقالهم واغتيالهم إن لزم الأمر!
كما أن علماءهم ليسوا على قلب رجل واحد، يختلف بعضهم مع بعض، ولا يوالي بعضهم بعضاً، بل ربما فعلوا ما لا يليق أن يكون عليه العلماء والدعاة، ولا أبالغ إذا قلت: إن فساد بعض العلماء هو من أكبر الأسباب التي أدت بأمتنا – وأهل السُّنة في القلب منهم – إلى ما تعانيه اليوم.
ومن التحديات كذلك أن جماعات أهل السُّنة والجماعة الجماهيرية منها والتنظيمية واتحاداتها وروابطها وهيئاتها ومؤسساتها لا تقوم بواجبها كما يجب، ولا تؤدي ما عليها كما ينبغي أن يكون، وإنما تتقاصر الهمم وتقعد العزائم عن القيام بواجب الدين والأمة إلا من رحم الله.
كل هذه تحديات تواجه أهل السُّنة والجماعة في عالمنا، ومن الواجب عليها – حكوماتٍ وجماعات ومؤسسات وروابط واتحادات وهيئات – أن تقوم بواجبها، وأن تعمل على مواجهة تلك التحديات؛ ليستعيد أهل السُّنة الذين هم عصب الإسلام دورهم ويحققوا قول الله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ {110}) (آل عمران).
قال الإمام الطبري: «فقال بعضهم: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وخاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم»، وقال آخرون: معنى ذلك: كنتم خير أمة أخرجت للناس، إذا كنتم بهذه الشروط التي وصفهم جل ثناؤه بها، فكان تأويل ذلك عندهم: كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، أخرجوا للناس في زمانكم، وقال آخرون: إنما قيل: «كنتم خير أمة أخرجت للناس»؛ لأنهم أكثر الأمم استجابة للإسلام.
وما لم يواجه أهل السُّنة هذه التحديات بجدية وتخطيط واهتمام وفق تصور واضح، وخطوات جادة، ونظر بصير وعلم مكين؛ فلن تخرج الأمة من النفق الذي تحيا فيه، وستظل الأنظمة المستبدة متحكمة فيها ومتآمرة عليها.
أهل السُّنة والواجبات
من أوجب الواجبات على أهل السُّنة والجماعة أن يقوموا برسم الخطط ووضع الآليات والبرامج لمواجهة التحديات السابقة، وإزالتها من طريقهم، والعمل على الوقاية منها في المستقبل.. لكن..
بعد عقد مؤتمر جروزني الذي أبعد السلفيين وأهل الحديث من زمرة أهل السُّنة، هل يجب عليها أن تقيم مؤتمراً مواجهاً ليكون رد فعل على ذلك، ويعيد الاعتبار للمصطلح: مفهومه ومصادقاته، ويحبر الأبحاث والورقات للرد وتعميق الجدل؟
الذي أراه – ولله العلم والحكمة والحجة البالغة – أن واجب أهل السُّنة والجماعة ممثلين في اتحاداتهم وهيئاتهم وروابطهم أن يقوموا بعدد من الواجبات، من أهمها:
1- أن يصنعوا مشروعاً لهم متكاملاً، يحدد معالم العقيدة والشريعة بكل جوانبها.
2- أن تكون لهذا المشروع دولة تتبناه وتدعمه، وتعمل من أجله، وتوفر كل الطاقات والإمكانات لأهله وعلمائه ورواده؛ إذ إن هذه المشروعات لا يمكن أن يقوم بها أفراد أو حتى مؤسسات واتحادات، وإنما الذي يليق لهذه المشروعات هي الدول.
3- ألا يشغلوا أنفسهم بقضايا ماتت ومات أهلها، وألا يُغيِّبوا واقعهم، ويهربوا من الجغرافيا إلى التاريخ، بل يعايشوا عصرهم ويجتهدوا له كما اجتهد السابقون لعصرهم واهتموا بمشكلاتهم.
4- أن تقوم الاتحادات والروابط والهيئات المعنية بأهل السُّنة والجماعة برصد مشكلات أهل السُّنة في أقطار الدنيا، وتتعرف إلى هذه المشكلات، وتقف على مدى معاناة أهل السُّنة في كل قطر من هذه الأقطار، فهناك أقطار تضطهد أهل السُّنة ولا تنزلهم منزلة المواطنين الأصليين، بل هم درجة ثانية وثالثة وعاشرة، لا يليق أن تكون لهم الحقوق العادية بل يحرمون من حقوقهم الطبيعية، وفي بعض البلدان لا يمكَّنون من أداء شعائرهم ولا بناء دور عبادتهم، ولا تعترف الدولة بمدارسهم وجامعاتهم، كما يحدث في إيران، وفي بعض الأقطار الأخرى تقوم الأنظمة بمليشياتها بقتلهم على الهوية وتهجيرهم من الأقطار، وحرمانهم من أي منصب في الدولة يمس الأجهزة الأمنية كما يحدث في العراق، وهناك الكثير والكثير من المعاناة التي تستحق الرصد والبحث والتحليل.
5- وضع الحلول الناجعة لهذه المشكلات، والقيام بإجراءات رسمية وشعبية من حقها أن تُنهي – أو تقلل على الأقل – هذه المعاناة؛ ليعيش أهل السُّنة كما يعيش الناس؛ أحراراً أعزة، لهم كل الحقوق، وعليهم كل الواجبات.
إننا لا يمكن أبداً أن نعود لمكانة الصدارة، ونحقق مرتبة الشهادة على العالمين إذا انشغلنا بقضايا تاريخية انتهت ورحل أهلها، أو إذا غيبنا واقعنا عن خارطة اهتماماتنا، وإذا لم نبحث عن حلول وإجراءات توقف الظلمة عند حدودهم، وتمنعهم من الاعتداء على حقوق الآخرين، والعلماء في ذلك يجب أن تكون لهم الصدارة، فلا تزال هذه الأمة بخير، ولا تزال نابضة بالحياة بدليل رفضها لمؤتمر جروزني ومن مثلوه حتى أسقطوهم تماماً، ولا تزال هذه الأمة قادرة على الفرز والتمييز، وما زالت تلتف حول علمائها الصادقين ودعاتها الربانيين، وليس أمام هؤلاء العلماء والدعاة إلا أن يكونوا على قدر هذه الثقة، وأن يقوموا بواجبهم نحو أمتهم ببيان الحق نظرياً وعملياً.