أوسمة على صدر الوطن: خليل القرآن: الشيخ امحمد نشنوش.

بقلم د. فتحي الفاضلي
الشيخ الذي فقد البصر.. ولم يفقد البصيرة. عندما بلغ الطفل امحمد نشنوش الثانية من عمره، أصيب بمرض في عينيه فقد على إثره حاسة البصر، ولكنه لم يفقد بصيرته.
حفظ الشيخ النشنوش القرآن الكريم قبل أن يبلغ العاشرة من عمره تقريبًا، فدشن بذلك أول إنجازاته المتميزة المتعددة. ليس ذلك فحسب، بل لم يفارق كتاب الله منذ نعومة أظافره، وإلى أن بلغ من العمر عتيًّا، تلاوةً وحفظًا وتحفيظًا وتفسيرًا وتجويدًا وتعليمًا وتسميعًا، لذلك يستحق، وبدون منازع، لقب “خليل القرآن.”
فمن هو الشيخ نشنوش؟
وُلد الشيخ امحمد محمد نشنوش في مدينة طرابلس، بمنطقة سوق الجمعة، في عام 1930م تقريبًا. وعاش في أكثر من حي من أحياء المدينة، منها شط الهنشير والمدينة القديمة. وفي ستينيات القرن الماضي، التحق السيد نشنوش بقسم الدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية بمدينة البيضاء، وبعد تخرجه عمل محاضرًا بجامعة طرابلس.
التحق بعدها بجامعة الأزهر، ودرس مختلف العلوم الإسلامية واللغة العربية، ومن بينها الفقه، والفقه المقارن، والنحو، والبلاغة، والشريعة، وغير ذلك من حقول العلم في المجالين المذكورين. ونال الشيخ درجتي الماجستير والدكتوراه في الفقه المقارن من جامعة الأزهر. نبغ الشيخ الجليل في جميع المجالات بدون استثناء، لكنه أبدع بصورة خاصة في علم من أعقد العلوم الشرعية، وهو علم المواريث، فكان مرجعًا، وعَلَمًا من أعلامه.
كما عاصر الشيخ نشنوش وصادق وحاور المئات من علماء وأعلام ورجالات ليبيا بصفة خاصة، والعالم الإسلامي بصفة عامة. نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: الدكتور عمرو النامي، والشيخ علي يحيى معمر، والشيخ الصادق الغرياني (مفتي ليبيا أثناء نشر هذا الكتاب)، وفاتح زقلام، والشيخ عبد السلام خليل، والأستاذ عامر الدغيس، والشيخ محمود البشتي، والأستاذ علي وريّث، والأستاذ منصور الكيخيا، والأستاذ عبد الرزاق أبوحجر، والشيخ محمود صبحي، وعلماء ورجال وأعلام آخرون من العالم العربي والإسلامي.
ويعتبر الشيخ نشنوش شعلة متقدة، وطاقة لا تنضب، ومنارة للعلم، أرشدت وجذبت ووجهت الآلاف من أبناء المسلمين بمختلف بلدانهم وأعراقهم وجنسياتهم. ومن الإنجازات المميزة لشيخنا الكريم، تأسيسه لنظام فريد لتحفيظ القرآن الكريم في ليبيا، فكان من أوائل من أدخلوا تعليم القراءة والكتابة ضمن برنامج تحفيظ القرآن الكريم، فقبل أن يُتم الطالب حفظ القرآن الكريم، يجد نفسه متمكنًا من القراءة والكتابة، وعلى مستوى رفيع جدًا.
كما ساهم الشيخ نشنوش مساهمة فعالة في تأسيس جمعية النور للمكفوفين في ليبيا، وذلك بالتعاون مع الشيخ الجليل عبد السلام خليل. وكان لهذه الجمعية بالغ الأثر في تطوير وتحسين حياة المئات ممن فقدوا نعمة البصر في ليبيا. وفتحت لهم آفاقًا وفرصًا وآمالًا عريضة، في حياة أفضل لهم ولأسرهم.
كما مارس شيخنا الجليل مهنة التدريس أستاذًا جامعيًّا، لعقود طويلة في عدد من الكليات والجامعات في ليبيا (منها الجامعة الإسلامية في البيضاء)، وجمهورية مصر العربية (جامعة الأزهر)، والمملكة العربية السعودية (كلية التربية للبنات بمدينة أبها)، لمدة ثمانية عشر عامًا (1983م – 2002م)، والولايات المتحدة الأمريكية (الجامعة الأمريكية المفتوحة).
ولم تتوقف نشاطات الشيخ العلمية والتعليمية والاجتماعية على ما سبق، فقد كان يُلقي وينظم ويؤسس الحلقات التعليمية في شتى مجالات العلوم الإسلامية، بالإضافة إلى تأسيسه وتنظيمه وإدارته لحلقات تحفيظ وتفسير وترتيل القرآن الكريم.
وكان بيت الشيخ نشنوش مفتوحًا لطلبة العلم من شتى بقاع الأرض، فقد تلقى العلم على يديه الآلاف من الليبيين، ومن غير الليبيين، من الرجال والشباب والأطفال. كما نلمس في شيخنا الفاضل، وبكل سهولة، حرصه على حاضر الشباب ومستقبلهم، ورغبته الجامحة الصادقة في إرشادهم وتعليمهم وتوعيتهم وتوجيههم وتربيتهم التربية السليمة. وبالرغم من عمر الشيخ نشنوش، نلاحظ غياب الهوة بينه وبين الأجيال الجديدة، فللشيخ شخصية مقبولة محبوبة وقريبة من مختلف الأجيال.
كما أنه من النادر أن ترى الشيخ هادئًا صامتًا ساكنًا، دون مساهمة أو حركة أو عمل أو إنتاج. فإما أن تراه في صلاة (إمامًا أو مأمومًا)، أو منهمكًا في إعداد الدروس، أو في إلقائها، أو في تنظيم، أو إدارة حلقة من حلقات القرآن الكريم، أو في الحديث مع طلابه وجهًا لوجه، أو عبر الهاتف، يجيب على أسئلتهم، أو يحاورهم، أو يوجههم، أو يصححهم، أو يمتحنهم. وما أن ينتهي الشيخ الجليل من أحد طلبته، حتى يستلمه – أو يستلم هو – طالب آخر، فتسمعه مرة أخرى يوجه ويصحح ويُعلّم.
كان الشيخ بجانب ذلك يهتم ويوجه ويُعيِن، معنويًا وماديًا، أسرة كبيرة، تتكون – بجانب السيدة الكريمة زوجته الصابرة – من باقة كريمة من الأولاد والبنات، وهم: أحمد وعبد الرحمن وسالم وعبد الرؤوف، بالإضافة إلى كريمتين (وفاء وجمانة) وثمانية أحفاد: خالد، ولبابة، ويحيى، ومعاذ، ومحمد، ونهى، ويسرى، وحسنى.
لم يفرض الشيخ نشنوش نفسه على المشهد الوطني والإسلامي بعلمه فقط، بل يوجد بُعد آخر في شخصيته لا يغيب إلا عن جاحد، فالشيخ نشنوش يحب الخير للجميع، ويتسع صدره للجميع، كريم، عطوف، صبور على ما ابتلاه الله، طيب، متسامح، يميل في معاملاته إلى اللين.
وكان فوق كل ذلك، يتمتع بروح مرحة، حاضر النكتة، يقابل الناس بالبِشر والترحاب والابتسامات، وتسبقه، كلما انضم أو التحق أو وصل إلى حلقة أو تجمع أو مكان، تعليقاته المرحة البريئة اللطيفة، فيضيف على المكان والحضور والزمان أجواءً من المرح.
وبمجرد أن تنتهي لحظات المرح، تجد نفسك، ودون أن تشعر، وسط حوار ما، أو وسط حديث عن فتوى، أو تفسير لآية من آيات الله، أو مقارنة إيجابية بين عالم وعالم آخر، أو حديث عن هموم الوطن، أو حديث آخر عن علم من أعلام ليبيا، فجلسات الشيخ لا تُمل.
كان الشيخ نشنوش يقوم بكل هذه الأنشطة، ويحقق كل هذه الإنجازات، ويساهم بكل هذه المساهمات، منذ صباه وإلى أن بلغ من العمر عتيًّا. بل واصل عطاءه حتى وهو على فراش الموت، وقد بلغ من العمر ثمانين عامًا ويزيد.
وهكذا، فجُلَ حياة الشيخ علم وتفكر وإنتاج وحركة، تحقيقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: “أَلاَ إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلاَّ ذِكْرُ اللهِ وَمَا وَالاَهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ.”
وبدون رحمة، هاجمت الأسقام بدنه الضعيف، ذلك البدن الذي حمل نفسًا تواقة عملاقة، لم يقوَ على مجاراتها، فانتقل الشيخ الجليل إلى رحمة الله تعالى يوم الأربعاء غرة جمادى الآخرة، الموافق للرابع من مايو من عام 2011م، ودُفن بمدينة ليكسنتون، بولاية كنتاكي، بالولايات المتحدة الأمريكية. دُفن الشيخ بجوار زوج ابنته، المناضل الشهيد محمد (فتحي) علي يحيى معمر، والذي وقف هو الآخر مع والده الشيخ علي يحيى معمر، في وجه الطاغوت معمر ونظامه القمعي، منذ الساعات الأولى لانقلاب سبتمبر. وقد أوردت مع هذا العرض الرابط الذي يتحدث عن حياة الشيخ علي يحيى معمر بالتفصيل.
كانت جنازة الشيخ نشنوش، وبشهادة الجميع، أكبر جنازة تشهدها مدينة ليكسنتون، وقد أصاب الارتباك، ولأول مرة، شرطة المدينة، حول كيفية تنظيم ومرافقة وحماية الجنازة، التي اشترك فيها أكثر من 150 سيارة، في مدينة صغيرة نسبيًا كمدينة ليكسنتون.
أكرمني الله سبحانه وتعالى، فزرته قبل أسبوع من وفاته (رحمه الله)، وقد أخذ منه المرض والألم مأخذًا، حيث ازداد الشيخ نحافة، وقد كان في الأصل نحيفًا جدًا، يذكرني بوالدي الكريم، رحمه الله. وكان يتأوه بصفة مستمرة تقريبًا، بعد أن هاجمته الأمراض من كل حدب وصوب، لكن روحه المرحة لم تتغير، وذاكرته لم تتأثر، وحرصه واهتمامه وحماسته للعلم والتعليم، والقرآن الكريم بالذات، لم تتغير.
لفت نظري، عندما كنا في المقبرة بمدينة ليكسنتون، ونحن نواري الشيخ الجليل الثرى، أحد المعزِّين، واقفًا وسط المقبرة وحيدًا صامتًا متأملًا. فاقتربت منه بنيّة التعرف عليه، فأخبرني أنه كان يتردد على حلقة علمية من حلقات الشيخ نشنوش في الستينيات في مدينة البيضاء. لم أعتبر هذا الأمر مجرد مصادفة؛ فرجل كان يتردد على حلقة الشيخ منذ أربعة عقود ويزيد، في مدينة البيضاء في ليبيا، يشارك في دفن الشيخ في مدينة ليكسنتون بالولايات المتحدة الأمريكية. لقد أرسل الله هذا السيد شاهدا على طبيعة وعمق واستمرارية العطاء الذي أفنى فيه الشيخ عمره، ودليلا على أن الشيخ كان حقًا جسرًا ربط بين الأجيال والأماكن والأزمان.
وفي يوم الجنازة أيضًا، التقى أحد الشباب الليبيين من أصدقاء الشيخ، ممن كانوا متوجهين لحضور مراسم الدفن، التقى هذا الشاب مصادفةً بأسرة من المملكة العربية السعودية عابرة سبيل، كانت متجهة إلى بلدة ما. فاختارت هذه الأسرة أن تنال قسطًا من الراحة في مدينة ليكسنتون. وفي محادثة مع رب تلك الأسرة، أخبر الشاب الليبي رب الأسرة عابرةِ السبيل، أنه في طريقه إلى تقديم العزاء وحضور مراسم دفن الشيخ نشنوش. وعندما سمعت السيدة ربة الأسرة السعودية اسم المتوفى، انهمرت دموعها وأخذت بالبكاء، وتبين أنها إحدى طالبات الشيخ نشنوش في كلية التربية في مدينة أبها بالمملكة العربية السعودية، فاتصلت فورًا بأهلها في السعودية وأخبرتهم بالواقعة، فنشرت أسرتها الكريمة الخبر وأقاموا هناك واجبات العزاء.
وكان للشيخ – بعد الله سبحانه وتعالى – الفضل في اعتناق الشاب الإيراني “كراشي” للإسلام، والفضل في تعليمه اللغة العربية، وبالطبع الفضل في رعايته والعناية به وتوجيهه. وعندما كان الشيخ يمر بأسوأ حالاته الصحية، وقد عجز حتى عن الأكل والشرب والحركة والكلام لأكثر من أسبوع، ظنت أسرته أنه الأسبوع الأخير، وأنها اللحظات الأخيرة. وقف هذا الشاب يودع شيخه، والشيخ طريح الفراش في غرفة الطوارئ.
اختار هذا الشاب أن يتلو شيئًا من كتاب الله، تكريمًا وتوديعًا وتقديرًا لشيخه. لقد كان الشيخ في ذلك الوقت في شبه غيبوبة لمدة أسبوع وأكثر كما ذكرنا. وعندما أخطأ الشاب في التلاوة، انتفض الشيخ الذي لم ينطق حرفًا منذ أسبوع، ولم يُسمع له صوت سوى تأوهات الآلام. انتفض الشيخ فجأة وهو قاب قوسين أو أدنى من الرحيل، انتفض مصححًا الشاب “كراشي” قائلاً له بنبرة فيها شيء من الحزم: “لقد أخطأت في قراءة الآيات، ثم إنك تقرأ من المصحف، فاذهب واحفظ الآيات جيدًا، ثم تعال واتلُها عليّ مرة أخرى.”، لقد أدرك الشيخ خطأ الشاب، كما أدرك أنه كان يقرأ من المصحف. أدرك الشيخ ذلك دون أن يرى الشاب، حيث كان مستلقيًا على فراش المرض، مديرا وجهه نحو حائط الغرفة، كان الشاب في مواجهة ظهر الشيخ عندما كان يتلو القرآن، ومع ذلك أدرك الشيخ أن السيد “كراشي” كان يقرأ من المصحف. لقد كان ارتباط الشيخ بالقرآن الكريم ارتباطًا روحيًا عجيبًا.
ليس ذلك فحسب، بل كان يمسك بأيدي أبنائه وأحفاده، الذين أحاطوا به في غرفة العناية المركزة في المستشفى، ويطلب منهم أن يتلوا عليه شيئًا من آيات الله (تسميعًا). ولم يكن الشيخ – كما ذكرنا – يقدر على الكلام، فكان يضغط على أيدي أبنائه وأحفاده كلما ورد خطأ ما في القراءة أو التجويد. وهكذا كان الشيخ يتابع آيات الله ويصحح قراءة الناس بينما عجز عن شرب قطرات من الماء. فقد كان أحفاده وأبناؤه يستخدمون قطعة من الإسفنج يغمسونها في الماء، ثم يضعونها على فم الشيخ، ويضغطونها في محاولة لإيصال قطرات من الماء إلى حلق الشيخ.
وكان يرافقني في زيارتي الأخيرة إلى الشيخ نشنوش، صهري السيد أحمد الشيخي، وهو من حفظة القرآن الكريم منذ صغره أيضًا، وإمام ومعلم للقرآن. وعندما كنا في معية الشيخ في بيته، استأذننا الشيخ نشنوش، بعد أن هاجمته فجأة الآلام الشديدة. استأذننا الشيخ ليستلقي بعض الوقت في غرفة مجاورة، فتلا عليه أحمد الشيخي قوله تعالى: “وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ…” (الأعراف: 163).
وما أن انتهى أحمد الشيخي من تلاوة هذه الآية، حتى انطلق الشيخ نشنوش في تلاوة السورة بكاملها، تلاوة أسرع من الحدر، وانتهى الشيخ من تلاوة السورة، وبصورة مؤثرة وصحيحة، قبل أن يصل إلى الحجرة. وندرك من هذا المشهد أن ذاكرة الشيخ ما زالت قوية بالرغم من شدة الألم، وأن حبه للقرآن، وحبه لتلاوة القرآن، والتصاقه به، أقوى من المحن والهموم والأسقام. وأنه كان بمقدوره أن يؤجل تلاوة السورة أو الجزء أو الثمن، بعد أن تزول الآلام مؤقتًا على الأقل، خاصة وأن السيد أحمد الشيخي أخبرني أن هذه السورة أو هذا الثمن من كتاب الله يتميز بشيء من الصعوبة.
وهكذا، فنحن أمام رجل بلغ من العمر الثمانين عامًا، نحيفٍ جدًا، تهاجمه – ودون رحمة – الآلام والأسقام والأمراض. بصيرٍ، مستلقٍ على فراش الموت في إحدى غرف العناية المركزة، قاب قوسين أو أدنى من الموت، ترى هذا الرجل وهو في هذه المعاناة، ممسكًا بالهاتف، يوجه طلابه، ويمتحنهم، ويصحح أخطاءهم أثناء تلاوتهم للقرآن. رجل بلغ الثمانين، وهو في هذه الحالة الصحية، ويقوم بهذه التكاليف، وغيرها من التكاليف التي تصعب على الكثير من الشباب. يدل ذلك – وبدون شك – على نفس تواقة، وهمة عالية، وتدل أيضًا على حب الله للشيخ، وحب الشيخ لله وكتابه ورسوله والمؤمنين. كما نلمس في هذا الرجل الصدق والجد والإخلاص والرغبة في العطاء والحرص.
وكم تمنيت، عندما لمست ذلك، أن يطلع أطفال وشباب ورجال ليبيا على حياة الشيخ، وعلى جل هذه المشاهد، لأنها أبلغ من ألف ألف محاضرة عن العمل والإنتاج والمسؤولية والمساهمة والعطاء والوقت والحياة والمشاركة والإعمار.
لقد رأيت في الشيخ، عبر هذه المشاهد من حياته، وغيرها من المشاهد التي حباني الله بها، وعاصرتها مع الشيخ الجليل، لقد رأيت في الشيخ الآية الكريمة التي يقول فيها الله سبحانه وتعالى: “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”، ورأيت الشيخ وقد حقق حديث الحبيب صلى الله عليه وسلم: “إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها، فليفعل” (رواه أحمد والبخاري)، بل وحطم الشيخ قول الشاعر زهير بن أبي سلمى في أحد أبيات قصيدته الشهيرة، التي يقول فيها:
“سئمت تكاليف الحياة ومن يعش …. ثمانين حولًا لا أبالك يسأم”
فالشيخ محمد نشنوش عاش ثمانين عامًا، لكنه لم يسأم، فقد قضى هذه العقود في عطاء متواصل دون كلل أو تعب أو ملل، بل ورأيت فيه، كما يجب أن يرى فيه كل منصف، قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: “الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة”، والشيخ نشنوش أحد أعظم الرواحل في هذه المائة.
أما علامات القبول للشيخ، فلا تُعد ولا تُحصى، بإذن الله. لقد فقد الشيخ نشنوش بصره فصبر، وحفظ كتاب الله، فتعلمه وعلمه، ومات مبطونًا، وهاجر في سبيل الله، ومن يهاجر في سبيل الله فقد وقع أجره على الله. جمع الناس على الخير، وأحب الناس وأحبوه، وأدى تجاه وطنه ودينه وعقيدته واجباته كاملة غير منقوصة، وربط الآلاف بالعلوم الإسلامية، وبكتاب الله بالذات، وقضى عمره في خدمة أسرته، فترك أسرة كريمة سيكون لها – بإذن الله – دور في خدمة البلاد والوطن والعباد، بل وخدمة أمته، إن شاء الله.
فجزاه الله عنا كل خير، وأسكنه فسيح جناته، وعوض عنه الوطن كل خير، وألهم أهله وأسرته والليبيين الصبر والسلوان، وهنيئًا لشيخنا الكريم علامات القبول في الدنيا والآخرة، وهنيئًا لأسرته الكريمة، وهنيئًا للوطن ليبيا بمثل أولئك الرجال.
كتبت في بنغازي في 12 ديسمبر 2011م



