الكلمة الأسبوعية
أَسَاسُ نَهضتِنا وسِرُّ قُوَّتِنا (2)
إنّ مما يساعد على النهوض؛ الاستفادة من تجارب الآخرين والبناء عليها، وعدم الانغلاق على الذات، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، وكما قال الشاعر:
لا تحقرن الرأي وهو موافق حكم الصواب إذا أتى من ناقص.
فالدر وهو أعز شيء يُقتنَى ما حط قيمته هَوَانُ الغائص.
وهذا ما كان عليه سلف هذه الأمة، فقد تفاعلوا مع الثقافة والحضارات التي كانت حولهم واستفادوا منها في حياتهم، فالدواوين التي أخذها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من الفرس، ونظام البريد وغيرها الكثير، يدل على مدى انفتاح هذا الدين على تجارب الآخرين، وهو أيضا في الحقيقة من العدل الذي أمرنا به في الحكم على الأشياء والأشخاص، مهما كانت العلاقة والموقف منهم، يقول تعالى: ( وَلَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰۤ أَلَّا تَعۡدِلُوا۟، ٱعۡدِلُوا۟ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِیرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ)
فليس بغض المؤمن شخصاً ما؛ يحمله على رد ما جاء به من الحكمة والخير، بل هو يأخذ الحكمة من أي وعاء خرجت، وعلى أي لسان ظهرت.
وكما ذكر شيخنا الدكتور يوسف القرضاوي، رحمه الله، في كتابه “من أجل صحوة راشدة”: (فلا عجب أن قامت في ظل هذا الدين دولة مترامية الأطراف، ورثت أعظم إمبراطوريتين في الأرض، أُسِّسَت على أمتن الأسس وأقوى الدعائم الجامعة بين الدين والدنيا، وترعرعت تحت سلطانه حضارة استفادت من تراث السابقين، وهذبت منه، وحسنت فيه، وأضافت إليه، ولم تجد في الدين ما يعوق سيرها أو يؤخر تقدمها، بل وجدت فيه الدافع الذي يحفّزها أن تضاعف السعي والحركة، والضمان الذي يمسكها أن تضل أو تنحرف عن الطريق، ولا غرو أن قال الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون: (إن العرب هم أول من علّم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين)، ونحن في واقعنا اليوم أحوج ما نكون إلى تذكّر هذه المعاني وبيانها، والتأكيد عليها في ظل العولمة الطاغية، والتواصل الواسع والسريع، وتعالي موجة التقليد لكل ما يرد من الغرب؛ سواء اتفق أم اختلف مع ديننا وعاداتنا وتقاليدنا، وأصبح كل من يدعو إلى التمسك بالمبادئ والقيم ينعت بالتخلف وعدم مواكبة الحضارة والرقي والتقدم، بل وصل الأمر إلى تقنين تلك المستحدثات ومعاقبة كل من يخالفها، ولننظر إلى ما يوضع من قوانين في العالم تغيّر من شكل الأسرة مع مخالفتها للفطرة قبل الدين، ومع ذلك يضغطون باتجاه تقنين هذا الأمر، وإلزام الدول بها.
التفاعل مع المحيط يجب أن يكون محكومًا بقواعد وثوابت الدين والأخلاق، وإلا انهار البناء، ولم يعد لنا شكل ولا لون ولا رائحة، والإسلام الذي نعتقد أنه دين الحق لم يلزم معتنقيه من الأمم بتغيير عاداتهم وتقاليدهم، إلا ما كان مخالفا لثوابته وعقيدة التوحيد فيه، بينما نجد الحضارة الغربية دخلت حتى في طريقة طعامنا ونومنا ولباسنا وعاداتنا، وهنا تكمن الخطورة، فنحن أبناء أمة؛ الأصل أنها تقود العالم إلى الحق، وتخرج الناس من ظلمات الشرك إلى نور الإسلام، ومن عبادة المادة إلى عبادة الخالق البارئ المتعال، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، أمة تدعو للسمو في كل شيء، فكيف تكون منقادة بدل أن تكون قائدة، وتابعة بدل أن تكون متبوعة.
لابد أن ندرك الدور المطلوب منا حتى نقوم به، والهدف الذي يجب تحقيقه حتى نسعى له، ومسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة، والخطوة الأولى إصلاح أنفسنا وواقعنا، وعودتنا إلى منهج ربنا والالتزام به والعمل على تطبيقه في حياتنا، والوعي بما يدور حولنا، وبذل الوسع في إصلاح حال بلادنا، حتى تكون شامة بين الدول، ومن هنا يمكن أن ننطلق للعالمين، (وَیَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَۖ قُلۡ عَسَىٰۤ أَن یَكُونَ قَرِیباً)، (وَمَا ذَ ٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِیز).