الكلمة الأسبوعية

أَسَاسُ نَهضتِنَا وسِرُّ قُوَّتِنَا 4

تنطلق الشعوب والأمم خلال حركتها في الحياة من مبادئ وقيم يعبّر عنها بالفكرة المركزية، وهي في الغالب تعبّر عن معتقد هذا البلد أو هذه الأمة، وكما يقول الدكتور الموسوعي عبد الوهاب المسيري: “أي مجتمع، بما في ذلك المجتمعات العلمانية، رأسمالية كانت أم اشتراكية، ديمقراطية كانت أم شمولية، تتحرك في إطار مرجعية نهائية ما، وهي الفكرة الجوهرية التي تشكل أساس كل الأفكار، والركيزة الأساسية والنهائية الثابتة لرؤية الكون التي يتبناها مجتمع ما، وهي المبدأ الواحد الذي تُردّ له كل الأفكار وتُنسب”
هذه هي الحقيقة التاريخية التي يخرج بها الباحث خلال رحلته في صفحات التاريخ، ولذلك خلص الباحث أرنولد توينبي إلى أن “أسلوب الحضارة إنما هو التعبير عن ديانتها، وأوافق كل الموافقة على أن الدين كان مصدر الحيوية التي أدت إلى وجود الحضارات، وحافظت على وجودها”
كما أن هذه الفكرة المركزية ينبغي أن تكون منسجمة مع هوية وثقافة المجتمع المتأصلة عبر تاريخه، وإلا حدث الصدام بين المجتمع وبين هذه الفكرة، ومما أكده المفكر الراحل أنور الجندي أن “العروبة هي الجسد، والإسلام هو الروح، وكان الإسلام هو الجوهر الأساسي لبناء وحدة فكرية بين المسلمين، ولقيام مجتمع يرتكز على حضارة مستمدة من روح الدستور الرباني لتخليصه من ويلات العنصرية”
ولعل أكثر ما يؤيد حتمية اعتماد الفكرة الإسلامية بالنسبة للعالم العربي والإسلامي، أن لها رصيداً واقعياً قوياً، يتمثل في حضارة لم تشهد لها البشرية مثلاً، امتدت 14 قرناً من الزمان، حضارة لم تمت ولم تندثر على رغم كل الأزمات والضربات التي تلقتها، فأساسها موجود، وأدوات انبعاثها باقية، وأثرها لا يزال العالم يتنعم في ظلاله، وإنْ اعتراها ما اعتراها من ضعف وخور.
هو أمر يثير الحيرة لا ريب، فأمامنا أنموذج غربي حديث ارتبط فيه التقدم بنبذ الدين، وأمامنا أنموذج حضاري محلي عمره عشرات القرون ارتبط فيه التقدم بالتمسك بالفكرة الإسلامية، وقد جربنا أن نسلك درب الغرب ولم نتقدم وجربنا أن نسلك سلوك الشرق الشيوعي فلم ننجح، فلماذا لا نعيد التجربة، تجربة الأنموذج الحضاري الذي ارتبط بالفكرة الإسلامية بالرجوع إلى الأصل الأول بشمولية منهاجه القائم على الإعمار، والعودة… العودة إلى المنابع، وحتى نكون في انسجام مع أنفسنا ومبادئنا وقيمنا التي نعيش بها في حياتنا اليومية، وما أجملها من كلمة تلك التي نادى بها الخليفة الثاني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب “كنا أذل أمة فأعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله”. وما نقلناه سابقا من قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس:”لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”.
وقد يقول قائل: نحن مسلمون نصلي ونصوم ونؤدي الفرائض، ونفعل، ونفعل، فلماذا لا نتقدم ونتطور ونبني بلادنا؟
ولكي تكون الإجابة واضحة وجلية، فلابد أن نكون صرحاء في تقييمنا لالتزامنا بتعاليم الدين، وأداء الفرائض، واجتناب المحرمات. ينقسم المجتمع إلى ثلاث كتل رئيسية:
الأولى: تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتلتزم قدر الإمكان بتعاليم الدين، وهي قلة قليلة، لا تفي بالغرض.
الثانية: ترتكب المظالم وتجاهر بالمعاصي وتعيث في البلاد فسادا، وهي أيضا ليست بالكثيرة، ولكنها قد امتلكت زمام القوة المالية والمادية، وكان صوتها عاليا، وفعلها معلنا، بل وتعدت على الفئة الأولى فقتلت وشردت ونهبت.
الثالثة: وهي الغالبية العظمى من الناس تلتزم بالفرائض وتتجنب المحارم ما أمكنها ذلك، ولكنها لم تنصر الأولى، ولم تقف أمام الثانية، والتزمت الصمت، بل ولا أكون مبالغا في أنها تمارس أنواعا من الظلم لا تصل إلى عمل الفئة الأولى، ولكنه ظلم لا يرضاه الله ولا رسوله ولا المؤمنون. فمنه التهاون في أداء العمل، بل وهناك من يتقاضى مرتبا على عمل لا يقوم به، ومنه الغش في البيع والشراء، ومنه ضعف تربيتنا لأبنائنا وبناتنا، وغيره الكثير.
وهنا نجد أنفسنا نخالف قاعدة عظيمة، وسنة واضحة من سنن التغيير كُنتُمۡ خَیۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ وسنفقد هذه الخيرية بهذه المخالفة، كما أننا سيقع علينا ما وقع على الأمم من قبلنا إذا فعلنا ما فعلوا  لُعِنَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۢ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰءِیلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُۥدَ وَعِیسَى ٱبۡنِ مَرۡیَمَۚ ذَ ٰلِكَ بِمَا عَصَوا۟ وَّكَانُوا۟ یَعۡتَدُونَ، كَانُوا۟ لَا یَتَنَاهَوۡنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُۚ لَبِئۡسَ مَا كَانُوا۟ یَفۡعَلُونَ، وهذا ما أكده النبي  بقوله: “لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم، فلا يستجاب لهم”.
هذه نظرة، والنظرة الثانية هل أخذنا بأسباب القوة والتغيير إلى الأحسن؟ أم أننا نتمنى وندّعي ونحاول محاولات غير مدروسة، ومما لا شك فيه أن النظرة الأولى تلقي بظلالها على الثانية، ولذلك فلابد أن نصلح شأننا مع الله تعالى، ونلتزم بأمره ونأمر به وننتهي عما نهى ونتناهى عنه فيما بيننا، كل بحسب قدرته واستطاعته، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
هناك أمران آخران لابد من التركيز عليهما، وهما: الأخلاق الحسنة، وإنفاذ القانون، حتى تستقيم الأمور وتنصلح الأحوال، ويغير الله من حالنا بعد أن نكون قد غيّرنا من أنفسنا، وصدق الله إذ يقول: إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ.
اللهم خذ بأيدينا ونواصينا إليك، وأصلح شأننا كله يا أرحم الراحمين، والحمد لله رب العالمين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى