إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) في بلاد الحجاز.. حينما تجتمع عظمة الأبوّة مع صلاح البنوّة
د. علي محمد الصلابي
تكلمنا في مقالات سابقة عن حياة إبراهيم (عليه السلام) في بلاد الحجاز؛ وفيها قصته مع زوجته سارة، وتعرضهما لمحنة الملك الظالم، ثم التعرف إلى هاجر، وتطوير العلاقة بينهم، ثم قصتها مع إسماعيل وتركهم بواد غير ذي زرع بلا طعام ولا ماء، وقصة مولد إسماعيل ونبع ماء زمزم
وكيف شبّ الغلام وتعلم العربية من قبيلة جُرهم الذين نزلوا بجوارهم، وقد أعجبهم حين شبّ، فلما كبر وبلغ زوّجوه امرأة منهم، قبل موت أم إسماعيل.
إبراهيم في زيارته لبيت إسماعيل:
فجاء إبراهيم بعدما تزوّج إسماعيل يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم يسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدّة، وشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام، وقولي له يغير عَتَبَةَ بابه. فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا، فأخبرته أنا في جَهْد وشدة. قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غير عَتَبَةَ بابك، قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك! الْحَقِي بأهلك. فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، ثم أتاهم بعد فلم يجده، فدخل على امرأته فسأل عنه. قالت: خرج يبتغي لنا قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسَعَة، وأثنت على الله. فقال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء. قال النبي – صلّى الله عليه وسلّم: ولم يكن لهم يومئذ حَبّ، ولو كان لهم دعا لهم فيه، قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه. وفي رواية: فجاء فقال: أين إسماعيل؟ فقالت امرأته: ذهب يصيد؛ فقالت امرأته: ألا تنزل، فتطعم وتشرب؟ قال: وما طعامكم وما شرابكم؟ قالت: طعامنا اللحم وشرابنا الماء، قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم. قال: فقال أبو القاسم – صلّى الله عليه وسلّم: بركة دعوة إبراهيم. قال: فإذا جاء زوجك فَاقْرَئِي عليه السلام مُرِيِهِ يُثَبِّتُ عَتَبَةَ بابه. فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير. قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم، يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تُثَبِّتَ عَتَبَةَ بابك. قال: ذاك أبي، وأنت العَتَبة، أمرني أن أُمْسِكَك. ثم لبث عنهم ما شاء اللَّه. (ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج1/ص207)
التقاء إبراهيم وإسماعيل وبناء البيت:
جاء نبي الله إبراهيم عليه السلام بعد ذلك وإسماعيل يَبْرِي نَبْلًا له تحت دَوْحَةٍ قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد. قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمرك ربك؟ قال: وَتُعِينُنِي، قال: وأُعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني بيتاً هاهنا، وأشار إلى أكَمَة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفع القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
وهذا حديث صحيح مرفوع للرسول صلّى الله عليه وسلّم، ويتحدث عن مسائل ومشاهد من قصة إبراهيم وهاجر وإسماعيل عليهم السلام جميعاً. (الخالدي، القصص القرآني، ج1/ص392)
رؤيا ذبح إسماعيل وبناء الكعبة:
هل كانت رؤيا ذبح إسماعيل – عليه السّلام – في زيارة إبراهيم الثالثة إلى مكة والتي قابل فيها إسماعيل والتي بنيا فيها الكعبة المشرفة؟ أم كانت هذه الرؤيا ومشهد الذبح والفداء في زيارة أخرى لاحقة فيما بعد؟
ليس عندنا من النصوص الصريحة ما يحدد ذلك، فلا نستطيع التحديد والجزم والله أعلم، وهناك رواية موقوفة غير مرفوعة، فقد أخرج الفاكهيّ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان إبراهيم يزور هاجر كل شهر على البراق، يغدو غدوة، فيأتي مكة ثم يرجع فيقبل في منزله بالشام. (العسقلاني، فتح الباري، (ج1/ص287)
ولعلَّ الأمرين – بناء الكعبة ورؤيا ذبح إسماعيل- كانا في الزيارة نفسها التي قابل فيها إبراهيم ابنه إسماعيل- عليهما السّلام – بعد غياب سنوات عديدة، فبنيا البيت، وأذّن إبراهيم بالحج، ورأى إبراهيم رؤيا بذبح إسماعيل، وكان الفداء وكانت الأضحية، وكان عيد الأضحى، وكانت مناسك الحج، لعلّ هذا هو الراجح. (الخالدي، القصص القرآني، ج1/ص395)
تعدد الزوجات في الأمم السابقة:
كان تعدد الزوجات سائداً في الأمم السابقة، وجاء الإسلام ليقرره شرعاً إلهياً، وحكماً دينياً، قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ]النساء:3[، وفي التعدد حكمة عظيمة، وخاصة عند الحاجة، كأن كانت المرأة لا تنجب، كما حصل مع سارة، فالتعدد حلٌّ سديد، وأفضل من طلاق الأولى، لزواج الثانية، ولغير ذلك من الأسباب، كان التعدد في الزوجات حلاً إلهياً ومعجزة في التشريع الإلهي حتى تقوم الساعة.
وإنَّ التعدد في الزوجات موجود في الشريعة اليهودية، وعند النصارى في العهود الأولى، حتى حرّمته ومنعته الكنيسة فيما بعد، وهو شائع في العالم اليوم إلا في بعض البلاد التي يعترف الرجل فيها أن له مع زوجته أكثر من صاحب أو خليل، ثم جاءت الطامة الكبرى في العصر الحاضر في الامتناع عن الزواج أصلاً لسهولة الوسائل الأخرى للغريزة الجنسية، وتهرباً من مسؤولية الزواج وتربية الأولاد، ثم جاء الأدهى والأمرّ والنكسة البشرية بالزواج المثلي “اللواط والمساحقة”، وإصدار الأنظمة والتشريعات، ونسأل الله ألا يهلكنا بما فعل السفهاء منّا، ويجنّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، ويحمي أمتنا ومجتمعاتنا من أوضار الجاهلية الحديثة. (الزحيلي، شرعة الله للأنبياء، ص 157)
حضانة الأم لولدها:
ترك إبراهيم زوجته هاجر وابنها إسماعيل – عليهم السّلام – في حضانتها واستغربت ذلك منه، وسألته عدة مرات فلم يُجب، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: فاذهب، فإن الله لن يضيّعنا.
بقي إسماعيل – عليه السّلام – في رعاية أمه وحضانتها لتقوم بجميع شؤونه، وتُؤمّن له الطعام والشراب واللباس والمأوى، ونهضت بهذه المهمة الجليلة لحفظه وهو صغير وهو لا يستقل بأمر نفسه، مع تربيته بما يصلحه ووقايته مما يؤذيه، ولأنَّ الإنسان أكثر المخلوقات حاجة في صغره إلى رعاية غيره وكفالته لأطول مدة بين المخلوقات؛ لأنه يهلك بتركها ويتضرر عند التقصير بها، فوجب حفظه من المهالك، ولذلك خلق الله تعالى غريزة الأمومة وفطر عطف الوالدين، وخاصة الأم على الوليد حتى يكبر، وجعله الله تعالى فريضة على الوالدين، كما أن حضانة الأم لولدها في الصغر أكثر أهمية وضرورة، ولذلك أوجب الله تعالى على الوالدة الرضاعة وما يتعلق بها، قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ]البقرة:233[.
إنَّ حضانة الأم لولدها رافق البشرية منذ مهدها، وسيبقى معها إلى آخرها، وأقرّته جميع الشرائع والأنظمة والقوانين إلا الشرائع المادية البحتة التي تخلّت عن الإنسانية؛ كالشيوعية، فإنها نزعت الأطفال من أمهاتهم، ولذلك تحتّم انقراضها، بل إنَّ القوانين والأنظمة اليوم تمنح الأمة إجازة دائمة أو منقطعة لحضانة أولادها، لينعموا بالعطف والحنان وحسن الرعاية والعناية، وهذا ما بدأ مع حواء وأولادها، ثم هاجر وابنها إسماعيل، وسارة وابنها إسحاق، وسائر البشرية، وهذا أحد الأسباب في منح الأم الأفضلية والمكانة العليا في الحياة. (الزحيلي، شرعة الله للأنبياء، ص 149)
ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: “إبراهيم – عليه السلام – أبو الأنبياء والمرسلين”، للدكتور علي محمد الصلابي، واعتمد في كثير من معلوماته على كتاب: ” القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث”، للدكتور صلاح الخالدي.
المراجع:
- صلاح الخالدي، القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، (1/388).
- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري، (6/287).
- علي محمد الصلابي، إبراهيم u خليل الله، دار ابن كثير، ط1، 736-741.
- شرعة الله للأنبياء، محمد مصطفى الزحيلي، دار ابن كثير، دمشق، ط1، 2018م.