اقرءوا نيتشه بشرط أبن خلدون!

أ. محمد خليفة نصر
مقدمة ابن خلدون بمثابة التقرير الختامي (ديوان المبتدأ والخبر) عن الحضارة الإسلامية التي عاصر صاحب المقدمة أفول نجمها، فكان للفلسفة بطبيعة الحال مكان في تقريره هذا باعتبارها من العلوم الوافدة. وحيث حضيت الفلسفة باستقبال باهر من بعض الفقهاء وصد ظاهر من البعض الآخر، كان لابن خلدون في النهاية الموقف الوسط، إذ اكتفى بوضع شرط جوهري لدراسة الفلسفة وترَك الباقي للدارس.
ـــ ما هو الشرط الذي وضعه ابن خلدون لدراسة الفلسفة في نهاية القرن الثامن للهجرة؟ وما الفائدة من قراءة نيتشه وهو بداية ما بعد الحداثة؟ سأجيب عن الأسئلة من خلال نظرة على تقرير ابن خلدون بخصوص الفلسفة لأنتهي إلى ما تميز به نيتشه (عن تيار الحداثة) ونهجه في “قلب كل القيم” كبداية لـ”ما بعد الحداثة”.
أولاً. تقرير ابن خلدون بخصوص الفلسفة.
خصص ابن خلدون الفصل الحادي والثلاثون في المقدمة لـ” إبطال الفلسفة وفساد منتحلها”، ثم وضع شرطاً لمن يروم دراستها على كل حال، لأن دراستها لا تخلوا من فائدة، وعلى التفصيل الذي سنراه بعد قليل! لكن قبل ذلك سأبدأ، على سبيل التقديم، بتبيان محنة الفلسفة في الحضارة الإسلامية، وسبب تلك المحنة، وموقف ابن خلدون منها.
أ) محنة الفلسفة. اختلاط الحق بالباطل في الفلسفة جعلها تواجه محاولة استئصالها جملة. وفي هذا السياق اتخذ بعض العلماء مواقف متشددة حيالها، أشهرها موقف ابن الصلاح الشهرزوري الذي قال: “الفلسفة أس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المطهرة”. أما الإمام الذهبي فقد كان أكثر دقة وتركيزاً في هجومه بتحديده نوع الفلسفة التي يهاجمها، وهي الإلهية فقال: “أن الفلسفة الإلهية لا ينظر فيها من يرجى فلاحه، ولا يركن إلى اعتقادها من يلوح نجاحه. فإن هذا العلم في شق، وما جاءت به الرسل في شق. وما دواء هذه العلوم وعلمائها والقائمين بها علماً وعملاً إلا التحريق والإعدام من الوجود، إذ الدين ما زال كاملاً حتى تُرجمت هذه الكتب ونظر فيها المسلمون، فلو حرقت وأعدمت لكان فتحاً مبيناً”.
“الفلسفة الإلهية”، (وتسمى أحياناً “العلم الإلهي” كما تسمى “الإلهيات”) هي ما يسمى “اللاهوت” عند الكنيسة، وأصل الكلمة مركب من (إله = Theo ) و (علم = Logy ). وهي من مشمولات الفلسفة الإغريقية التي دخلت دائرة المعرفة الإسلامية بعدما استقرت بالمسيحية، وكان ابن خلدون شغوفاً بها في بداياته ثم اكتشف أنها ليست شيئاً سوى الظن، والظن لا يغني عن الحق (الوحي) شيئا. وقد جاء نقد ابن خلدون لـ”العلم الإلهي” على النحو التالي، “وقال كبيرهم أفلاطون: إن الإلهيات لا يوصل فيها إلى يقين، وإنما يقال فيها بالأحق و الأولى – يعني الظن- و إذا كنا إنما نحصل بعد التعب والنصب على الظن فقط فيكفينا الظن الذي كان أولاً فأي فائدة لهذه العلوم والاشتغال بها ونحن إنما عنايتنا بتحصيل اليقين فيما وراء الحس من الموجودات، وهذه هي غاية الأفكار الإنسانية عندهم”. واضح إذن عند ابن خلدون أن البطلان متعلق بطلب معرفة ما وراء الحس، وهو ما يسمى عند المسلمين بـ”الغيب”، وهذا ما لا يتم الإطلاع عليه إلا من طريق الوحي، وكل محاولة إنسانية من غير طريق الوحي (القرآن) لا تتجاوز الظن والتخمين. وفي هذا السياق كان الذهبي في غاية الدقة عندما قال: ” هذا العلم في شق وما جاءت به الرسل في شق”! الرسل جاءت بالحق (ذلك الكتاب لا ريب فيه) والفلاسفة جاءوا بالشك (أنا أفكر فأنا موجود)! الرسول على بينة من ربه والفيلسوف شاك في وجود ذاته!
ب) شرط ابن خلدون لدراسة الفلسفة.
رأى ابن خلدون في الفلسفة “ثمرة واحدة وهي شحذ الذهن في ترتيب الأدلة والحجاج لتحصيل ملكة الجودة والصواب في البراهين”. ويعاضد رأي ابن خلدون القديم رأي تكون عن تجربة لأحد مجتهدي الزمن المعاصر وهو الشيخ راشد الغنوشي، الذي يرى أن “دراسة الفلسفة تطرح على الإنسان الأسئلة، وتدفعه إلى التعمق في المسائل وعدم قبول السائد ..”!
و لما كان من المحتمل أن تضع الفلسفة صاحبها على طريق الضلال البعيد (على رأي الشهرزوري والذهبي) نصح ابن خلدون دارس الفلسفة “أن يكون متحرزاً جهده من معاطبها، وليكن النظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه، ولا يكبّن أحد عليها وهو خلو من علوم الملة، فقل أن يسلم من معاطبها”. اشترط ابن خلدون على دارس الفلسفة “الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه” إذا أراد السلامة من معاطب الفلسفة، فإذا لم يتم الإيفاء بهذا الشرط وأكب عليها الدارس/المسلم وهو خلو من علوم الملة فأن من المحتمل أن لا يسلم من الانحراف عن الصراط المستقيم والضياع في متاهات لا آخر لها! و لا تصدق توقعات ابن خلدون صدقها على أبناء المسلمين الذين قرءوا نيتشه قبل الإيفاء بالشرط الوارد عن ابن خلدون فضلوا ضلالاً بعيداً.
ثانيا. نيتشه: المنهج والنتيجة.
فريدريش نيتشه (1844 – 1900) فيلسوف ألماني جاء بعد كانط و هيجل، وكان ناقداً لهما وللفلسفة الأوربية التي يمثلانها. وكان منهج نيتشه من الحدة والصرامة ما جعله كاتب التقرير الختامي للحداثة، ومفتتح ما بعد الحداثة. وسأتناول فيما يلي منهج نيتشه والنتيجة التي خرج بها، وهي نتيجة عظيمة الفائدة للمسلمين، وإن لم يفطن المسلمون لذلك حتى الآن.
أ) منهج نيتشه: قلب كل القيم.
لقد ساءني اكتشاف أن نيتشه لم يكن بين أعلام الفلسفة الحديثة في مقرر الفلسفة لطلبة الشهادة الثانوية في ليبيا. ولا أدري ما السبب في ذلك، ولعل مؤلفي الكتاب/المقرر قد نظروا إلى نيتشه بعيون الحضارة الغربية حيث يصنف “عدمي”، لأن نيتشه اتهم المسيحية/الكنيسة بالعدمية فارتدت الصفة عليه فأصابه خصومه كهدف ولم يصيبوا الهدف منه، وهو ما كان يخشاه هو نفسه! حكمَ نيتشه على المسيحية بالإعدام، وأصدر بذلك قانوناً (في 30 سبتمبر 1888). يتكون القانون من سبع بنود وعنوانه “قانون ضد المسيحية” وهو في عبارة نيتشه إعلان “حرب بلا هوادة على الرذيلة: الرذيلة هي المسيحية” حسب ما جاء في مقدمة النص الذي يجري في بعض بنوده كالتالي؛
البند الأول. “رذيلة هو كل نوع من مناقضة الطبيعة. والنوع البشري الأكثر رذيلة هو القس: إنه يعلّم ما يناقض الطبيعة…”.
البند الثاني. “كل اشتراك في قُدّاس اعتداء على الأخلاق العمومية الحميدة. يجب التعامل بأكثر شدة مع البروتستانت مما يُتعامل مع الكاثوليك، وبشدة أكبر مع البروتستانت الليبراليين من أولائك المتمسكين باحترام صارم للنواميس. يزداد الطابع الإجرامي حدة لدى المسيحي كلما اقترب أكثر من العلم. وبالتالي يكون أكثر المجرمين إجراماً هو الفيلسوف”. (فريدريش نيتشه، نقيض المسيح، ترجمة علي مصباح، منشورات الجمل، ص 150).
لماذا يكون الفيلسوف الأوربي أخطر المجرمين في نظر نيتشه؟ لأن الفيلسوف هو تعريفاً “محب الحكمة”، وكل من كان لديه أقل قدر من الحكمة يدرك أن المسيحية باطل، ولذا يعد فيلسوف الحداثة مجرماً إذ يتستر على المسيحية التي لا علاقة لها بما جاء به المسيح، وهذا هو السلوك الذي يدينه نيتشه بأشد عبارة في ضوء منجزات الحداثة العلمية حيث يقرر: “دناءة أن يكون المرء مسيحياً في يومنا هذا”! هذه هي محصلة نيتشه الفلسفية، بما أن الفلسفة طلبٌ للحكمة.
لقد أراد نيتشه أن يختتم فلسفته بكتاب يكون عنوانه “إرادة القوة”، لكنه غير رأيه في آخر لحظة، وكتب “نقيض المسيح” و “غسق الأصنام”، وفيهما أودع خلاصة فكره الهادف إلى “قلب كل القيم” اليهودية-المسيحية. وسأعود إلى منهج نيتشه في “قلب كل القيم” ولكن بعد الإشارة إلى أن بعض أبناء المسلمين الذين قرءوا نيتشه، دون فقه في الدين أو عمق في الفلسفة، طفقوا يطبقون ما وضعه نيتشه لهدم المسيحية على الإسلام، فهدموا الإسلام عن جهل، وضيعوا نيتشه كفلسفة ومنهج! لننظر الآن إلى منهج نيتشه في “قلب كل القيم” مطبقاً على العلاقة بين الحضارة الإسلامية والحضارة اليهودية-المسيحية لنرى كيف يليق بالإسلام أن يكون منهاج لما بعد الحداثة!
ب) القيـم مقلوبـة: (الخيـر والشـر).
عاشت أوربا دهوراً طويلة مقتنعة بأن الإسلام هو الشر المتربص بها، فجاء نيتشه ليقرر أن المسيحية هي الشر الذي حرم أوربا خيرات الحضارة الإسلامية، مثلما حرمها من ثمرات الحضارتين الإغريقية والرومانية من قبل. ولما كانت أوربا تعيش على قناعة بأن المسيحية هي الخير، فقد قلب نيتشه قيمتي الخير والشر في أوربا بطريقة ثورية، حيث صنف الحضارة الإسلامية الخير الذي فقدته أوربا بسبب الشر(المسيحية) والمؤسسة الشريرة (الكنيسة) التي اشتغلت بالصد عن سبيل الله طوال تاريخها، لأن “المسيحية تنفي الكنيسة” في نظر نيتشه.
1) الخير الذي فات أوربا. ليس في المسيحية، وهي إسلام ما قبل الإسلام، أي سلطة/مؤسسة دينية. الكنيسة هي سلطة الرهبان مثلما كان الكنيس اليهودي سلطة الأحبار، ومن خلال هاتين السلطتين أتخذ اليهود والمسيحيين “أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله..”، يحرمون عليهم الحلال ويحلون لهم المحرمات، وفي هذا السياق جعلوا الإسلام من المحرمات وبالنتيجة حرموا ساكنة أوربا من خيرات الحضارة الإسلامية. في الفقرة 60 من كتابه نقيض المسيح يؤكد نيتشه هذا بالنص: ” حرمتنا المسيحية من جني ثمار الحضارات العتيقة، ومن بعد حرمتنا مرة أخرى من جني ثمار الحضارة الإسلامية. لقد تم الازدراء بذلك العالم الثقافي الموريسكي البديع الذي عرفته أسبانيا… والذي هو أقرب إلينا، ويخاطب حواسنا وذوقنا أكثر مما تفعل روما واليونان!
ولم يخفق نيتشه في تبيان “ان الكنيسة تعارض حتى النظافة”. الكنيسة تعارض سنن الفطرة، وهي أعمال النظافة التي حافظ عليها كل الأنبياء وإبراهيم أولهم إذ كان “أول الإجراءات المسيحية التي اتخذت على إثر طرد الموريسكيين [هو] غلق الحمامات العمومية التي كان لقرطبة وحدها 270 منها”!
2) مؤسسة الصد عن سبيل الله. لماذا تحقد المسيحية على الحضارة الإسلامية؟ “لأنها من منزلة نبيلة، ولأنها مشروطة في نشأتها بغرائز فحولية، ولأنها تقول نعم للحياة، مع زيادة في الرهافة النادرة لبدائع الحياة الموريسكية”، يجيب نيتشه. الحضارة الإسلامية في تقدير نيتشه “حضارة كان من المفترض أن يشعر حتى قرننا التاسع عشر بنفسه فقيراً جداً و متأخرا للغاية مقارنة بها”. لكن ما السر في كل هذا البغض للإسلام الذي يصل حد تحريم النظافة؟ إنه الحقد – يجيب نيتشه- “الحقد على كل ما هو واقع العنصر المحرك، والمحرك الوحيد المتأصل في عمق المسيحية. ماذا ينتج عن ذلك؟ ينتج عن ذلك أن الخطأ متجذر في المجال البسيكولوجي [النفسي] أيضاً، يعني أنه محدد للوجود، أي جوهرا. لنحذف فكرة واحدة من هنا، ولنضع حقيقة واحدة مكانها، وإذا المسيحية بكليتها تتهاوى إلى العدم”. إذا حذفنا فكرة واحدة من المسيحية (إن الله ثالث ثلاثة)، ووضعنا حقيقة واحدة مكانها (لا إله إلا الله) فهل يبقى من المسيحية شيء؟!
قول النصارى إن الله ثالث ثلاثة هو الخطأ/الجوهر الذي تفرعت عنه كل الأخطاء بما فيها تحريم النظافة، فالمسيحية كـ”ديانة ليست محددة بالأخطاء فحسب، بل على درجة من الابتكار وحتى من العبقرية في ابتداع الأخطاء الأكثر تسميماً للقلب والحياة”. كلما مر الزمن كلما ازدادت أخطاء المسيحية وكلما زادت أخطائها زادت سمومها في القلب والحياة، وهنا يصل نيتشه لنتيجه حاسمة: ” كل ما يعتبره اللاهوتي حقيقة لابد أن يكون خطأ: قاعدة يمكن أن تتخذ معياراً للحقيقة”!
قد يخفي طول العهد كل هذه الحقائق العلمية والإسهامات النيتشويه على الغافلين.. لكن الذكرى تنفع المؤمنين. لقد صبت الحضارة اليهودية-المسيحية سمومها في قلوب أبناء المسلمين الذين لم يتفقهوا في الدين ولم يتلوا الكتاب المبين؛ هولاء يمموا وجوههم شطر أوربا للتعلم دون أدنى تحصين فتعلموا، من بين ما تعلموه، البغض الصهيوني-الصليبي لإخوانهم في الدين! ولم ينتبه إلا القليل للمناورات الصليبية، ومن هولاء حمودة بن الساعي، الذي أنقذ مالك بن نبي من سموم لويس ماسينيون الذي كاد أن يدفعه إلى الارتداد عن دينه! قليل من الناس يعلم اليوم من يكون حمودة بن الساعي ومن يكون لويس ماسينيون الحقيقي/الصليبي. كان أبن الساعي أحد ضحايا المكر الذي قاده على الجبهة الجزائرية ماسينيون، الذي سأهتم بسمه المنبعث من حقده الصليبي في مرة قادمة، باعتباره من الأمثلة الشهيرة في باب “الأخلاق النبيلة وأخلاق الضغينة” في تصنيفات نيتشه لأصول الأخلاق المسيحية، و ما تفرع عنها من فلسفة لا تنتج سوى الضغينة والحقد، ولذا لا ينبغي الاقتراب منها قبل الإيفاء بشرط ابن خلدون.