الإباضية في ليبيا ، وحوار هادىء مع اللجنة العلمية في الهيئة العامة للأوقاف بحكومة الوحدة الوطنية
د. ونيس المبروك
نشرت الهيئة العامة للأوقاف على صفحتها منشورا جاء فيه عن الإمام سحنون رحمه الله أنه قال : ولا تجوز شهادة أهل البدع بحال، قال: لا نجيز شهادة المعتزلة، والإباضية والجهمية والمرجئة وغيرهم من أهل الأهواء.
ثم قرأت لأحد المشايخ قولا يمنع فيه من تزويج الإباضية، وذلك كي لا “يصطبغ أولادهن بصباغ هذا المذهب في المستقبل.” على حد تعبيره ؛ فاستكثر الشيخ إنزال بنات المسلمين الحرائر، منزلة اليهود والنصارى الذين أباح الله زواج المحصنات منهن .؟!!!
وهذه القضية واسعة الأرجاء متشعبة الأنحاء ، لاتصالها بقضايا تاريخية وعقدية واجتماعية وسياسية ، يصعب تفكيكها وشرحها في هذه العجالة، ولكن سيكون حواري على هيئة نقاط موجزة ، لعلها تجد قلبا صافيا وأذنا واعية، وإلا فحسبي أن أقوم بواجب النصح والبيان .
1- هيئة الأوقاف هي مؤسسة حكومية ليبية رسمية ، وليست مالكة قانونا ولا شرعا حق التعبير عن عقيدة الشعب الليبي ، ولا يجوز لهيئة حكومية ” دينية ” أن تنشر مذهب القائمين عليها – ولو كان صوابا لديهم – على أنه عقيدة تمثل هذه الجهة الحكومية، أو الدولة الليبية عامة، وإن كان قصدهم بعبارة هذه عقيدتنا ، عقيدة اللجنة العلمية في الهيئة، فهذا يمكن نشره في كتاب خاص، أو في موقع مستقل أو بصفة فردية، وما سوى ذلك يعد توظيفا لسلطة هيئة حكومية واستعمال ميزانيتها ومواقعها من أجل ترويج مذهب، أو منهج معين ولو كان صوابا كما ذكرت آنفا .
هذا من حيث الشكل، والمشروعية، لا من حيث المضمون والشرعية .
2- من حيث المضمون هناك عدة أمور، فالمنشور ذكر أن الإباضية من أهل الأهواء ولا تقبل شهادتهم . ومعلوم أن إخواننا الإباضية هم مكون أساسي وأصيل لهذا الوطن الكريم، وأتباع لهذا الدين الخاتم، والحكم بسقوط شهادتهم وأنهم من أهل الأهواء حكم خطير؛ لما يترتب عليه من آثار، و ما تتفرع عنه من أحكام متعلقة بتوثيق الزواج والطلاق، وكثير من المعاملات، وأهلية الإباضية لتقلد الوظائف العامة والخاصة في الدولة، وعدالتهم في مجتمعهم الليبي بشكل عام .
وحكمٌ ” ديني ” خطير مثل هذا يتطلب أن يكون مُدرَكه قطعي الثبوت والدلالة من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولكن اللجنة العلمية كان دليلها هو ” قولٌ ” لأحد علماء المسلمين وهو الإمام سحنون رحمه الله. فإن كان دليل سقوط شهادة المسلم هو قول سحنون ، فلابد أن نسقط شهادة ثلاثة أرباع الشعب الليبي في داخل الوطن وخارجه ، لأن الإمام سحنون ، وفي نفس الصفحة من المصدر الذي نقلوا عنه، يقول بسقوط شهادة من يبيح اللعب بالحمام والنرد وسماع المزامير والطنابير . وقد نقل عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء قوله : إذا أتى الرجل مجلس القاضي ثلاثة أيام متوالية بلا حاجة ، فينبغي أن لا تقبل شهادته .” فكم سيتبقى من شعبنا الليبي بحسب معيار الإمام سحنون .
لك أن تحكم بسقوط شهادة كل أولئك باي دليل يرضيك، وبكل قول تنتقيه من أي كتاب، لكن ( ليس باسم الدولة الليبية، وتحت شعار الحكومة )
3- اتفقت كلمة الفقهاء، بل كل العقلاء ، على وجوب رعاية واعتداد مآلات الأقوال والأفعال قبل اجتراحها، فما هي المآلات والآثار المتوقعة من هذه المنشور الذي تبنته هيئة الأوقاف ؟
إن مآله – وإن لم يكن ذلك مقصودا في نياتهم – هو مزيد من تمزق النسيج الاجتماعي الليبي، و إشاعة التبديع والتفسيق، وتكريس التصنيف العقدي والطائفي، وتغذية البغضاء والكراهية، وإثارة الجدل المذموم بين الشباب، من أتباع الدين الواحد. وكل مآل من هذه المآلات يمثل فاقرةً كبيرة، بل بعضها تحلق ” الدين ” كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم .
والأخطر من ذلك هو أن هذا السلوك الخطير، ” قد ” يدفع بعض إخواننا الإباضية إلى الاستنجاد بالمؤسسات الأممية والدول الأجنبية للدفاع عن حقوقهم الثقافية والدينية .
4- هل الإباضية “-من الناحية العلمية الموضوعية – من أهل الأهواء ؟
الأمانة العلمية تقتضي أن ” أكرر ما نشرته وقلته منذ عشرين عاما ” أن الإباضية فرقة إسلامية، مرجعيتها الكبرى هي القرآن الكريم، والسنة النبوية، وقام عليها أئمة ثقات من أمثال جابر بن زيد الأزدي ، وابو عبيدة بن أبي كريمة، والربيع بن حبيب وغيرهم ، وطرائقهم في الاستدلال منضبطة بعلم أصول الفقه، ومصادرهم في الأحكام هي الكتاب والسنة والاجماع والقياس والاستصحاب، ولديهم من كتب الرواية مسند الربيع بن حبيب، … أما ما وقع فيه كثير من مصنفي كتب الفرق من نسبة الإباضية للخوارج بإطلاق، فهو أمر يحتاج إلى مزيد من التدقيق والتحقيق، ولا سيما في إباضية هذا العصر، وبخاصة أن كبار علمائهم ينكرون هذه النسبة ويرفضون هذه التسمية، أما وجود الأخطاء في القضايا الظنية من مسائل العقيدة والفقه والسلوك والسياسة، فيكفي أن نراها أقوالاً مرجوحة، غير صحيحة حسب ما استقر عندنا، وتلك الأخطاء لم ولن ينجوَ من الوقوع في مثلها أحد.
5- إن استدلال الهيئة العامة للأوقاف بنصوص ” المدونة ” وبهذه الطريقة غير الحكيمة في الحكم على عقائد كثير من المسلمين الليبيين سابقة خطيرة جدا، قد تقود بعض أنصاف المتعلمين إلى استباحة دماء إخواننا الأمازيع من المذهب الإباضي ، فقد جاء في الجزء الثاني من المدونة عن الإمام مالك : “الإباضية والحرورية وأهل الأهواء كلهم أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا”
فانظروا بالله عليكم ، لو فتحنا باب الاستدلال بالمدونة، أو غيرها دون خطام ولا زمام ، كيف يكون الفساد والهرج والفوضى، عندما نجعل أحكام علماء البشر كأحكام رب البشر.
6- لو سلمنا- جدلاً – أن الإباضية من الخوراج ، وأنهم مجروحو العدالة، وشهادتهم لا تقبل، فكيف سنفعل مع أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى، وهو صحيح الإمام البخاري ؟ فقد جاء في أسانيد الإمام البخاري أربعة رجال من الخوارج، وهم : يحيى بن كثير المخزومي، وداود بن الحصين، وعمران بن حطان، وزيد بن ثور الديلي .
أرأيتم إن أخذنا بلوازم أقوالكم ، كيف ستعم الفوضى، ويفضي ذلك إلى التشكيك والطعن في أهم كتب مصادر التشريع .
7- أود في الختام طرح سؤال قديم كنت قد طرحته على إخواني من شيوخ الهيئة العامة للأوقاف عندما أصدروا قرارا يقتضي احتكارهم لتصنيف الفضيلة و الأفكار الهدامة في المجتمع تحت برنامج “حراس الفضيلة ” وسؤالي هو : هب أن الأمور السياسية تبدلت وتغيرت – والأيام كما تعلمون دوَل – ثم جاء على رأس الهيئة العامة للأوقاف عالم من علماء الإباضية، أو خصم للمتدينين ، وقام بتغيير تدريجي لخطباء المساجد والإدارات ، ثم صنفكم من أهل الأهواء والبدع الذين لا تقبل شهادتهم ، وأقصاكم – بسلطان الدولة – عن منابر الجمعة، وأودع النشطاء منكم في السجون ظلمًا، ألا يعد هذا ظلما وجورا وعدوانا واستباحة لعرض المسلم ، وإرهابا فكريا، واستعمالا لسلطان الدولة لتكميم الأفواه ، ومصادرة لحرية الرأي