عاممقالاتمقالات فكرية

الإسلام الأعرج

 

أ. محمد خليفة

الإسلام الآن دين بدون دولة، وعقيدة بدون شريعة، وشريعة بدون اجتهاد! ولا ينفع الدين بدون دولة، ولا العقيدة بدون شريعة، ولا الشريعة بدون اجتهاد. وإذا كان ما سلف مما يحيّر القارئ فالمفتاح لتجاوز الحيرة هو أن الإسلام الآن منهج عبادات وليس منهج سياسات، ومنهج عقيدة في عالم يعج بقوانين ناقضة لها، وتحكم الشريعة كل العبادات وبعض المعاملات دون السياسات!

وسبب القصور والبلبلة هو أن الإسلام الآن منهج تشريع على غير منهج تفكير، ولذا ترى سارق العلانية يقطع يد سارق السر، وأهل الغفلة تهلل وتكبر لتطبيق الشريعة، بالرغم من أن الذي يطبقها على ذاك النحو طاغوت تسمى باسم “ولي الأمر”. وسيأتي تفصيل ما سلف موجزًا على النحو الآتي.

أولاً. دين بدون دولة.

للدولة الإسلامية خاصيتان: البيعة بناؤها، والشورى إدارتها. فما حوّل يثرب إلى “المدينة المنورة” هو بيعة العقبة الثانية بين الرسول صلى الله عليه وسلم والأنصار. وكانت الشورى خاصية المدينة-الدولة أيام النبي عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين رضى الله عنهم.

انتهت البيعة والشورى في الدولة الإسلامية يوم خطب معاوية قائلاً: “ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك. إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون.” وتأكدت هذه النهاية عندما ورّث معاوية الحكم ليزيد، ليصبح الإسلام مملكة لبني أمية! تأسست هذه المملكة على الخداع (المصاحف على الرماح)، وترسخت بشراء الذمم وسفك الدماء بالطريقة التي وصفت في كتب التاريخ التي كتبها مؤرخون مسلمون وفصلوا فيها ما جرى تفصيلاً يغني عن إعادة البحث في الأساليب التي تحولت بها الخلافة إلى مُلك!

وعندما جاء ابن خلدون لينظّر للمسألة قسم الأنظمة السياسية إلى ثلاثة أنواع: 1) الخلافة وهي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي، 2) الملك الطبيعي وهو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة، 3) الملك السياسي وهو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية.

تولي معاوية نقل نظام الحكم عند المسلمين من النوع الأول (الخلافة) إلى النوع الثاني (الملك الطبيعي). وهزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى وسقوط كافة بلاد المسلمين في قبضة القوى الاستعمارية، ثم الفكاك منها بعد الحرب العالمية الثانية نقل المسلمين إلى النوع الثالث (الملك السياسي)، الذي يركز على المصالح الدنيوية وينسى الآخرة سيرًا على نهج اليهود والنصارى ومن لا دين له. وفي هذه المرحلة ظهر عرج الإسلام الذي تؤذن مساجده في حواضر الدعارة فيها مهنة، والربا تجارة، والغدر سياسة…!

ثانيًا. عقيدة بدون شريعة.

المسلمون اليوم شبه نوعين من الناس. النوع الأول، المسلمون قبل الهجرة حيث العقيدة راسخة والعبادة قائمة، ولكن بدون دولة حاكمة وشريعة نافذة. والنوع الثاني، أهل الكتاب وهم أهل التوراة والانجيل اللذين لا نفاذ لهما، فالمسلمون أهل الكتاب (القرآن) الذي لا نفاذ له إلا في حدود منها الصلاة والحج وبعض المواعظ هنا وهناك. وهذا مصداق حديثه عليه الصلاة والسلام: “لتتبعن سنن من قبلكم…”! ونبذ العمل بالقرآن سير في أثر الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. وهذه هي الصورة الثانية لعرج الإسلام الحاضر عقيدة وعبادة والغائب شريعة وسياسة!

ثالثًا. شريعة بدون اجتهاد.

مما يتكرر في آيات القرآن الكريم أن من وظائف النبي عليه الصلاة والسلام تعليم الأميين الكتاب والحكمة. الكتاب هو أول النقل والحكمة من أهم أعمال العقل، فالمسلمون الأوائل انتقلوا من الأمية إلى الاستاذية بفضل النبي عليه الصلاة والسلام الذي زكاهم وعلمهم الكتاب والحكمة.

والأستاذ الذي ما زالت الإنسانية تتعلم منه وأود أن أقف على حكمته اليوم هو ابن رشد، الذي توفي قبل ثمانية قرون تاركًا وراءه مدرسة أوربية أسمها الرشدية. وقد خاض ابن رشد حوارًا جادًا وعميقًا مع الغزالي حول “العلوم العقلية” أو “علوم الأوائل”، والمقصود بها الفلسفة الإغريقية التي تدفقت على بلاد المسلمين في القرن الثاني للهجرة.

كتب الغزالي “تهافت الفلاسفة”، فرد عليه ابن رشد في “تهافت التهافت”، وفي هذا الكتاب وردت فقرة تبين مدى عمق ابن رشد، ونظرته الثاقبة لعلاقة العقل بالنقل، ودور الاجتهاد في التشريع عندما قال: “كل شريعة كانت بالوحي فالعقل يخالطها، ومن سلم أنه يمكن أن تكون ها هنا شريعة بالعقل وحده فإنه يلزم ضرورة أن تكون أنقص من الشرائع التي استنبطت بالعقل والوحي.”

ما يقوله ابن رشد هو الآتي؛

  • كل شريعة كانت بالوحي فالعقل [الاجتهاد] من مكوناتها،
  • كل شريعة مصدرها العقل وحده تكون أنقص من الشريعة المستنبطة بالوحي والعقل.

وسأضيف من عندي وعلى مسئوليتي الآتي؛

  • كل شريعة بالنقل وحده (دون العقل/الاجتهاد) شريعة جامدة. وهذا هو حال شريعة المسلمين اليوم؛ شريعة جامدة أو محنطة في قوالب، من نوع “قال شيخ الإسلام” أو “روى الإمام أحمد”. وفي أكثر من مناسبة انتهى هذا النهج إلى كارثة تقديم الحديث على القرآن، واعتبار نقَلةَ الحديث هم وحدهم “العلماء” وهم، دون غيرهم، “أهل السنة”.

وإذا كان بالإمكان بناء الإسلام من جديد فينبغي أن تكون إعادة البناء من حيث انتهى اجتهاد علماء الإسلام الأول: ابن حزم، وابن رشد، والشاطبي، وابن خلدون، والقرافي، وابن عاشور. فهؤلاء هم آخر المجتهدين المجددين، وبالبناء على منهجهم يستأنف أعلام من نوع سيد قطب ومالك بن نبي فكر جديد يرتقي إلى مستوى تحديات الحاضر، ويجعل الإسلام يمشي سويًا، وإن نظر إلى الخلف فلا يسير إلى الوراء.

وإذا كان الكثير من المتحدثين باسم الإسلام اليوم ينظرون إلى الخلف، ويسيرون إلى الوراء، فالأمر ليس مصادفة بل بفعل فاعل! وقد شهد الدكتور عبد الله العروي باسم الفاعل أو أحد الفعلة المسؤولين عن توجيه الدراسات الإسلامية إلى الخلف والسير بها إلى الوراء. وقد جاء ذلك في لقاء له (من جزئين) على إحدى الفضائيات.

يقول العروي أن استاذه هنري لاؤوست Henri Laoust[1]، هو من نصح بترك دراسة ابن رشد وأمثاله والعودة إلى ابن تيمية والحنابلة. وهذه النصيحة جزء من عمل لاؤوست الأكاديمي وجهده الهادف إلى استضعاف المسلمين بتوجيههم إلى الخلف وردهم إلى ماضي لا يفيدهم في النظر إلى الأمام ولا في التوجه إلى المستقبل. وكان لهذا الاستاذ عدد من التلاميذ المتخصصين في الإسلاميات، ومنهم عبد الله العروي الذي رماه مالك بن نبي بالسفسطة، عندما تعرض في برنامج “نور على نور” سنة 1969 لرسالته لنيل درجة الدكتوراة التي قدم لها جاك بيرك عند طبعها ونشرها.

وللأسف ما زال توجيه الإسلام إلى الخلف، والسير به إلى الوراء، خارج نطاق الدراسات الإسلامية، فمن السلفية إلى الصوفية، ومن الجهاد إلى الإرهاب… وهلم جرًا، مع تصفيات معنوية ودموية للناظرين إلى الأمام والمتأملين في المستقبل. وطالما ظل هذا هو الحال فسيظل الإسلام يعرج كعهدنا به منذ قرون تواضع الناس على تسميتها “عصور الانحطاط”.

 

[1] مستشرق فرنسي (1905-1983). وكان والده إيميل لاؤوست أحد رواد الدراسات البربرية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى