الإطار العام للسّلم الأهلي عند الأستاذ علي القَرَەداغي

د. شيروان الشميراني
تمهيد
كتابات ومؤلفات أستاذنا د. علي القرەداغي تتناول مجالين في العلم والفكر الإسلاميَيْن، جانب الاقتصاد والمال وهو المعروف به، وجانب الأصول والمقاصد ومجالات في الفكر الإسلامي، وهذا بأتي بالمرتبة التالية، لكنه في الآونة الأخيرة بدأ يهتم بها أكثر من قبل، يبدو أن هذا الاهتمام ناتج عن إكمال الجانب الاقتصادي في حقيبته الكبيرة بالإضافة الى المزيد من التلامس مع الجانب الفكري الذي تدور مسائله في المجتمعات الإسلامية، ونتيجة علاقاته المستمرة بالجاليات الإسلامية في الغرب أو الاجتماعات الإسلامية في الدول ذات الغالية غير المسلمة، فقد تناول أكثر مما تناوله في الجانب الفكري موضوع العلاقة بين المسلم وغيره المسمى في الأدبيات ب “الآخر”، لأن العلاقة بالآخر كيفيتها هي المظهر العملي للتصور العام عن الحالة التي تعيشها المجتمعات عموماً، ولأن “الإرهاب في أهم أسبابه يعود الى الإنحراف الفكري فالخلل العقدي فالعنف في الجانب السلوكي“.
يتناول الشيخ علي القرەداغي مسألة العلاقة السلمية البناءة مع الآخرين في خمسة من كتبه، ثلاثة منها خاصة بالباب وهي:ـ “نحن والآخر، مباديء عامة للتعايش، إسلام الرحمة”، وتطرق إليه في كتابين آخرين وهما “فقه الميزان، يوسف-عليه السلام-“، وهذا يدل على أهمية الحديث في المنهج الإسلامي في تشكيل العلاقة مع الاخرين، وفي الظرف الراهن خصوصاً حيث يشكل جانباً من التصور العام للعلاقات الخارجية الدولية والاجتماعية، وما يحتله من مكانة في التناول لدى المفكرين المختصين من أصحاب الديانات والأفكار المختلفة.
نتطرق هنا إلى ثلاث نقاط أساسية في هذا البحث المختصر الذي يتناول موضوع التعايش السلمي:-
أولاً:- الأسس .
إن المباديء المتعلقة بموضوع التعايش السلمي معروفة، وهي غير قليلة، لكننا هنا نذكر منها أربعة فقط:-
( المراد بالثوابت هي الأحكام والمباديء الثابتة بالنصوص القطعية أو أجمعت عليها الأمة إجماعاً صحيحاً أو صريحاً، أي أنها مما علم في الدين بالضرورة، والمتغيرات القابلة للإجتهاد هي ما عداها)”1”.
بقدر تعلق هذا المبدأ بالتعايش والتفاهم الأهليالسلمي فإنه يعمل على العقول وإعدادها من أجل إستيعاب الآراء المختلفة والمخالفة، وسهولة التعامل مع المختلفين كقاعدة ثابتة بعيدة عن النزاع وإحتمالية رفضها، يظهر الاختلاف في الرأي والفكر كتنوع وثراء فكري وفقهي إسلامي، وعندئذ يبتعد صاحب الرأي عن إنكار الآراء المخالفة له، لأنه يرى في الخلاف حقاً قائماً على التعدد، فبدل التلاسن يأتي القبول، (بجميع أهل القبلة دون تكفير ولا تفسيق، وإنما النصح وتوزيع الأدوار لخدمة الإسلام والمسلمين بين الجماعات والأحزاب الإسلامية)”2”، هذا داخل المسلمين ومجتمعاتهم الخاصة، لكن إن من إحدى خصائص الاجتماع هو أنه لا يكون هناك لون خاص ولا فكر وعقيدة واحدة مهيمنة وموجودة داخل مجتمع معين، أي أن الساحة لم تفرغ لحملة دين واحد، وإنما التعددية كانت سائدة دوماً، وهذه التعددية هي إحدى سمات التجمع البشري عبر التاريخ، والإسلام بطبيعته لا يضع حائطاً من النار بين أتباعه وأتباع الأديان والأفكار الآخرى، وإنما قرر أن يتعامل المؤمنون به مع الجميع وفقاً لتعليمات محددة لتكون السلوكيات مناسبة وجميلة، كجمال الإسلام ومنهجه.
وعليه يقول الدكتور القرەداغي: (من فوائده [أي الثوابت والمتغيرات] القبول بغير المسلمين باعتبارات شريعتنا التي حافظت على حقوقهم وأن بيننا وبينهم مشتركات انسانية)”3”، ولتغطية هذه الزاوية التي تحفظ السّلم داخل مجتمع متعدد الأفكار والأديان خصص كتاباً كاملاً بعنوان “نحن والآخر”، يقول فيه: ( يرجع الإسلام الأديان السماوية كلها الى أصل واحد وهو الوحي الإلهي، وأن شرائع الله تعالى قد انبثقت من مشكاة نور واحد، ولذلك يدعو الإسلام أتباعه إلى الإيمان بجميع الأنبياء والرسل السابقين، والكتب السماوية، والكتب المنزلة السابقة … وأكثر من ذلك فإن القرآن الكريم جعل لفظ الإسلام إسماً مشتركاً لجميع الأديان السماوية السابقة والى ألْسِنة أكثر الأنبياء)”4”.
ومما يثمره هذا الفهم أنه ومن باب التديُّن فإن الفرد المسلم يعتمد سلوكيات إيجابية ومرنة وسمحة وهادئة مع الآخر من دون أي ضغط أو إكراه، لأنه ومن منطلق الآيات المباركات فإن المسلم يعترف بوجود أديان أخرى لها كتب سماوية نازلة، وهو ما يسمى في علم مقارنة الأديان بالأديان التوحيدية أو السماوية، يشير الأستاذ القرەداغي الى دستور المدينة المنظِّم لعلاقة الشرائح المختلفة داخل مجتمع المدينة المنورة.
المقصود بالوسطية والإعتدال هو في الفكر والتصور والعقيدة والعبادات والسلوك والتصرفات، الاستقامة على الطريق والثبات عليه، العدل في التعامل مع الناس، التوازن في الواجبات والحقوق، وبهذا تكون الامة المسلمة هي الامة التي تكون خير أمة للناس بجدارة واستحقاق. وتكون عمل هذه الأمة بغاية تبيين الحقائق للأمم الأخرى وإرشادهم وهدايتهم، وقطع الطريق على المظالم، وإقامة الشهادة عليهم بكل إنصاف وعدل في الدنيا والآخرة”6” .
هذا المفهوم للوسطية نابع من الآية القرآنية التي يقولفيها رب العالمين { وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطَاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ وَيَكُون الرّسُولُعَلَيْكُمْ شَهيدا} [البقرة: ١٤٣]، والفهم الوسطي كما أنه المنهج الطبيعي للإسلام فإنه في الوقت ذاته يحمي الانسان المسلم من “الطّرَفية”، أي الذهاب الى أحد الأطراف الذي يأتي بالتطرف، التطرف بإتجاه التشدد أو التطرف بإتجاه التسيّب والتمييع، الوسطية تقضي بالإبتعاد عن اللجوء الى العنف في التعامل تحت أي عنوان كان، لهذا ولكي يُلَوّنَ الإنسان المسلم حياته بروح الإسلام في مسارات حياته، عليه أن يروّض نفسه على التقيد بهذا المنهج المعتدل الذي يأمر به القرآن الكريم.
ينبني فقه الميزان على خمسة عناصر:-
دور هذا المنهج في الفهم الإسلامي في وزن الأمور كما ينص ويفصل كتاب “فقه الميزان” وأثره في العلاقات الاجتماعية البينية والسياسية الدولية،هو: أن التقيد بالموازين يؤثر تاثيراً مباشراً على طريقة حياة الانسان كلها، من مثل: الحرب والسّلام، أي الخلط بين أحكام الحرب وأحكام السلم، تقييم حالات السلم مع المناوئين بمعايير حالة الحرب لمجرد أنهم مخالفون في الدين يأتي بالقرار الخاطيء، ومن هنا الكوارث التي نراها داخل المجتمعات، وحينما تحدد الحالات بالخطأ ويحدد مسار الحياة الهادئة الطبيعية بقياسات الحرب، تخرب الحياة وتتفشى الخصومات والحروب.“”8” فالمجتمع الذي يعيش أبنائه بسلام ومودة فيما بينهم، لا يمكن التعامل مع المخالفين في الدين والفكر فيه على أنهم محاربون أعداء، و“كذلك حينما يراد بالقوة ادخال موازين العباداتالمحضة في العادات يحدث اضطرابويؤدي إلى الجمود والتكفير والتضليل بدون وجه حق.“”9” لأن هذا لو حصل فإنه يربك مسار الحياة داخل المجتمع ويهدم جسور الترابط بين أبنائه.
ثانياً:- تصحيح المفاهيم.
المفهوم أكثر من كلمة تتقاذفها الأفواه، وعندما تتحول الكلمة الى مصطلحات ذات مضامين علمية وحمولات ثقافية، تلخّص حينئذٍ كمّاً كبيراً من المعاني وتشكل مادة للنزاع بين الحضارات”10”، فإذا فهمت المادة العلمية خطأً تأتي صياغة المفردات المفاهيمية تجسيدً لتلك الأخطاء، وتعبر في الأوساط الثقافية والشعبية عن المعاني تلك، ومن ثمّ تصوير الحياة ورسمها، فالمفاهيم المغلوطة تأتي من الفهم الخاطيء للأفكار وتصحيح الفهم لها يكون المفتاح لتصحيح الأفكار، وتكون الأثر أشدّإذا كانت المصطلحات تعبر عن قناعات دينية،حيث الحكم بالفسق والكفر والنفاق، وفيما يتعلق بالتعايش السلمي داخل المجتمعات إنّ هناك مفاهيم تحكم وتتحكم في طبيعة العلاقات، من أجل ذلك اشتغل الشيخ علي القرەداغي بتصحيح بعض المفاهيم المرتبطة بالتعايش السلمي الأهلي والمؤثرة فيها.
منها:-
ثالثاً:- الكراهية وخطابها.
ربما جرّاء التنوع الهائل في وسائل التعبير والتواصل نتيجة الثورات الإعلامية، يعتبر خطاب الكراهية من أشد الأمور الذي يدمر السلم والأمان الإجتماعيين، وذلك عائد الى قوة الكلمة، الكلمة التي قد تودي واحدة منها بقائلها في النار، ودخول النار بسبب كلمة واحدة هو في اليوم الآخر، مع أنّ الكلمة قد قيلت في الحياة الدنيا، فإنّ هذا يدلّ على حجم الخراب الذي خلفته تلك الكلمة في العلاقات، والظلم الذي لحق بالناس نتيجة كلمة واحدة.
إذا كان كل هذا بكلمة واحدة، فكيف بخطاب كامل متناسق في مستوى عالٍ من التأثير، يحتوي علي ملايين الكلمات الحاقدة ويذاع باستمرار؟
هنا ينبغي أن يكون خطاب الكراهية مكروهاً بذاته، يعرّفه بأنه: تصريح بالقول، أو الكتابة، أوالإشارة، بما يدلّ على الإنتقاص من الآخر بسبب دينه، أو لونه، أو جنسه””12”. وهذا الخطاب محرم في الإسلام، لأنه يتضاد مع قيمه العليا، ويدخل فيه السباب والشتائم والشماتة والإستهزاء والاستخاف بالاخرين، همزاً أو لمزاً.
في الإسلام لابدّ من أن يكون الخطاب ودوداً متسامحاً، يعتمد الكلمة الطيبة ونشر المحبّة والسّلم والإحسان، يبثُّ المعاني الأخلاقية السامية، ينهى عن الفحشاء والمنكر بكل لطف، ومع جميع البشر، من دون إستثناء.
ختاماً..إنّ ما سبق من الحديث، هو عرض ملخص لفكرة التعايش السلمي داخل المجتمعات، المتفقة في الدين والفكر أو المختلفة، من منظور الشيخ علي القرەداغي، وهو يأتي جواباً على الهجمات المناوئة كيداً، أو ردود الفعل على الممارسات الخارجة عن المنهج الإسلامي، ممن يتحركون تحت العنوان الإسلامي، التفصيل وتفصال الموضوع تجده في الكتب الخمسة المذكورة في بداية البحث.
وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب.
الهوامش
10 – مباديء عامة، 35.
11- يراجع كتاب “معركة المصطلحات بين الإسلام والغرب. محمد عمارة.
12 – مباديء عامة، ص 25-64.