عاممقالاتمقالات فكرية

الإمام أبو حنيفة النعمان.. مؤسس علم الفقه وأول الأئمة الأربعة

الدكتور : علي الصلابي

مولده ونشأته:

هو الإمام الجليل أبو حنيفة النعمان بن ثابت بن زوطى، ولد في الكوفة سنة 80 هـ/699  م، اختلفت المصادر في أصله، فمنهم من قال إن أصله فارسي، ومنهم من قال إن جده قدم من كابل بأفغانستان، وقال بعض المؤرخين المعاصرين بأنه ينحدر من أصول عربية، وبالتحديد من بني يحيى بن زيد بن أسد، وهم من عرب الأنباط الذين سكنوا العراق قبل الإسلام.

وقد عمل أبو حنيفة في صباه بالتجارة إلى جانب والده الذي كان تاجرا ميسورا، ولكنْ رغم عمله رحمه الله بالتجارة فإن ذلك لم يشغله عن طلب العلم، فقد كان مولعا بتحصيل العلم منذ سنوات صباه. وخلال رحلته وتنقله بين مجالس العلم والعلماء، التقى به الإمام الشعبي الذي توسم في أبي حنيفة الخير، ورأى فيه العزم والحماسة في طلب العلم، فقال له: “عليك بالنظر في العلم ومجالسة العلماء، فإني أرى فيك يقظة” (الجنابي، 2013).

علمه وصفاته:

روى أبو حنيفة رحمه الله عن خلق كثير، فروى عن الشعبي، وعدي بن ثابت، وجبلة بن سحيم، وعبدالرحمن بن هرمز الأعرج، وعمرو بن دينار، ونافع مولى ابن عمر، والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وقيس بن مسلم، وغيرهم، كما روى عن عطاء بن أبي رباح وهو أكبر شيوخ أبي حنيفة وأفضلهم.

وتتلمذ أبو حنيفة في الفقه على يد أحد كبار فقهاء الكوفة، وهو حماد بن أبي سليمان، فلازمه مدة طويلة تزيد على 18 عاما، حتى قال الذهبي عن حماد: “وبه تفقه”، يقصد أن أبا حنيفة أخذ جل علمه في الفقه عن حماد (الدغيثر، 2007). وكان أبو حنيفة رحمه الله يتتبع التابعين أينما كانوا، وخصوصا من اتصل منهم بصحابة امتازوا في الفقه والاجتهاد، وقد قال في ذلك: “تلقيت فقه عمر وفقه عبد الله بن مسعود وفقه ابن عباس عن أصحابهم”.

وحفظ – رحمه الله- القرآن الكريم على قراءة عاصم بن أبي النجود، ودرس الحديث النبوي وأصول الدين وعلم الكلام، وكانت له معرفة جيدة بالنحو والشعر والأدب، واهتم بمسائل العقيدة وجادل الفرق المختلفة والمبتدعة بخصوصها، لكنه على العموم عكف على دراسة الفقه واستغرق فيه كل جهده العلمي والفكري. قال الذهبي في ذلك: “وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه فإليه المنتهى، والناس عليه عيال في ذلك”؛ وقال ضرار بن صرد: “سئل يزيد بن هارون أيهما أفقه، الثوري أو أبو حنيفة؟ فقال: أبو حنيفة أفقه، وسفيان أحفظ للحديث” (الدغيثر، 2007)؛ وقال عبد الله بن المبارك: “أبو حنيفة أفقه الناس”.

كان أبو حنيفة رحمه الله حسن الوجه والثياب، طيب الريح، حسن المجلس، واسع الكرم، جميل المواساة لإخوانه، شديد التواضع، حليما وقورا، وكان كثير الحج وتلاوة القرآن الكريم، ورغم اشتغاله بالتجارة كان معروفا بالورع والزهد وركونه للآخرة، فكان ثري النفس، عظيم الأمانة، سمحا، شديد العبادة، ولعل هذه الصفات مجتمعة كان لها الأثر الكبير في معاملاته التجارية (العاني، 2021). وقد رفض أبو حنيفة منصب القضاء مرارا وتكرارا في أيام بني أمية وثبت على موقفه مع الدولة العباسية، الأمر الذي عرضه إلى غضب الخلفاء والولاة والسجن أكثر من مرة (الجنابي، 2013).

وورث أبو حنيفة رئاسة مجلس شيخه حماد بعد وفاته، فكان مجلسه كخلية النحل التي تعج بطلاب العلم والعلماء والشيوخ، وكثير من الطلبة الذين لزموه وناقشوه وأخذوا عنه فدونوا مذهبه، وأشهرهم محمد بن الحسن الشيباني، وأبو يوسف القاضي، وزفر بن الهذيل. ومع تكاثر طلبة مذهبه الذين عرفوا بالأحناف تأسس المذهب الحنفي نسبة إليه رحمه الله، وهو أول مذهب فقهي من المذاهب الأربعة الكبرى المعروفة والمتبوعة في العالم الإسلامي قديما وحديثا، وهذا من عظيم أثر وفضل أبي حنيفة رحمه الله في التاريخ والفقه الإسلامي.

مذهبه الفقهي ومنهجه:

تميز مذهب أبي حنيفة بالجمع بين المنهجين اللذين اتبعهما أبو حنيفة في الفقه، وأولهما منهج الأخذ والحفظ عن الرواة والعلماء، والذي يعتمد بشكل أساسي على تجميع وحفظ النصوص، أما المنهج الثاني فهو منهج التعاطي مع النصوص من خلال التنقيح والسبر والتقسيم، وأيضا التفسير والتأويل باستخدام العقل، وبذلك يكون الإمام أبو حنيفة قد أحدث نقلة نوعية ولافتة في العلم الشرعي، حين اعتمد الرأي والقياس، ووضع الأسس النظرية للمدرسة الفقهية القائمة على الرأي والاجتهاد، في حين كان التقليد والتقيد بالنص ما يزال أبرز سمات ذلك الزمن (حبلا، 2022).

وقد علق الدكتور سلمان العودة على لجوء أبي حنيفة للرأي والاجتهاد بقوله: “لقد أسس أبو حنيفة رحمه الله مدرسة الرأي في الكوفة، واستجاب لدواعي التجديد والقياس مما طرأ على حياة الناس وجدّ من المسائل، خاصة مع نقص الرواية عندهم، ولقي في ذلك عنتا من بعض من لم تتسع عقولهم لما اتسع له عقله، ولم يدركوا ما أدرك، وما هو إلا أن قامت المدرسة واستقرت أصولها، حتى سلّم لها كثير من المخالفين، وعذرها آخرون، وانقطع الكلام أو كاد؛ وهذا شأن المدارس التاريخية، كما تجده في النحو والأصول وغيرها” (العودة، 2022).

وكان مذهب أبي حنيفة قائما على الكتاب والسنة ومستندا إليهما، حاله كحال المذاهب الفقهية الثلاثة الأخرى، فلم يأخذ أبو حنيفة منهج الرأي والقياس بدافع الهوى والرأي الشخصي الاعتباطي، بل كان يأخذ بالرأي المعتمد على القرائن والأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية، وكان يهتم بتأصيل المسائل، فقد نقل عنه قوله: “آخذ بكتاب الله تعالى، فإن لم أجد فبسنة رسول الله ﷺ، فإن لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله ﷺ أخذت بقول الصحابة، آخذ بقول من شئت منهم وأدع قول من شئت منهم، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين والحسن وعطاء وسعيد بن المسيب – وعدد رجالا- فقوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا”.

كما صح عنه رحمه الله قوله: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”، وقوله أيضا: “لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه” (الإسلام سؤال وجواب، 2004)؛ فقد كان رحمه الله يعظم النصوص، فجعل ذلك منهجه، ولمن تبعه أن يقدم النص على كل قول، فقد روى نوح الجامع عن أبي حنيفة أنه قال: “ما جاء عن الرسول – صلى الله عليه وسلم- فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة اخترنا، وما كان من غير ذلك فهم رجال ونحن رجال” (الدغيثر، 2007).

أول المذاهب الأربعة في علم الفقه:

وهكذا تأسس مذهب أبي حنيفة الأصولي والإصلاحي معا، والذي استند إلى النصوص الشرعية، واعتمد على المنهج المتعقل والمنضبط في التعاطي معها وتفسيرها، واستنباط الفتاوى والأحكام منها بالرأي والاجتهاد، وقد استمدت المذاهب الفقهية التي نشأت لاحقا الكثير من أسس وقواعد منهجه في الاستنباط والقياس، ولذلك كان المذهب الحنفي مؤسسا لما بعده، فيمكن القول إن أبا حنيفة رحمه الله كان “مؤسس علم الفقه”.

فالإمام أبو حنيفة أول من دوّن علم الشريعة ورتب مسائله في أبواب، وهو ما قلده مالك بن أنس في ترتيب الموطأ، وتابعه عليه الفقهاء اللاحقون، ومازال المذهب الحنفي حتى اليوم واسع الانتشار عظيم الفائدة، وله الفضل في شتى المجالات والمسائل الفقهية المعاصرة وتطبيقاتها، فمؤلفات المذهب الحنفي كثيرة ومنتشرة، وتحظى باهتمام العلماء والفقهاء والباحثين المهتمين بالفروع الفقهية، والمختصين بعلوم أصول الفقه ومختلف التخصصات الإسلامية.

ويُعدّ المذهب الحنفي مصدرا معتمدا للأحكام والقوانين المستمدة من الفقه الإسلامي، والمعمول بها في المحاكم والقانون المدني في الدول الإسلامية (ماماداليوف، 2021). وهو من أكثر المذاهب انتشارا في العالم الإسلامي، حيث يمثل انتشاره الجغرافي اليوم انعكاسا جغرافيا وتاريخيا لانتشاره القديم، حيث انتشر مذهب الأحناف في البداية في العراق والمشرق كفارس وبلاد ما وراء النهر؛ أما اليوم فينتشر المذهب الحنفي بكثافة في أفغانستان، وطاجيكستان وباكستان، وبنغلاديش، وشمال الهند، ومعظم العراق وتركيا، كما ينتشر في مصر وسوريا ولبنان، وعند معظم المسلمين في الاتحاد الروسي، والصين.

Related Articles

Back to top button