الإمام الأوزاعي “شيخ الإسلام وعالم أهل الشام”
د. علي محمد الصلابي
شيخ الإسلام وإمام أهل الشام في الحديث والفقه، الإمام المبجل، والمقدام المفضل، كان واحد زمانه، وإمام عصره وأوانه، مقوالاً بالحق لا يخاف سطوة العظائم، وكان حجّاجاً إلى بيت الله الحرام، جمّ التواضع، ودوداً حليماً، عفيفاً نبيلاً، كثير الإحسان إلى الناس، وأحد أئمة الدنيا فقهاً وعلماً وورعاً وحفظاً وفضلاً وعبادة، الإمام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي(رحمه الله).
أولاً: اسمه ونسبه وكنيته:
عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي الشيباني، الشامي الدمشقي،ثم البيروني. وهو ابن عم يحيى أبي عمرو الشيباني، وقد قيل: إن الأوزاع قرية بدمشق، ويكنى أبا عمرو، وكناه بها الجميع، وخاطبه بها الناس. (الإمام الاوزاعي، عبد الستار الشيخ، ص46 –52)
ثانياً: نشأته:
ولد الأوزاعي (رحمه الله) في قرية بعلبك – بالبقاع – في لبنان، وذلك في سنة ثمان وثمانين من الهجرة، وأدرك الأوزاعي (رحمه الله) منذ صغره رحمة الله ورعايته، فقد توفي أبوه وهو صغير، فنشأ في حجر أمه يتيماً فقيراً، حيث تعهدته بالتربية والرعاية وتنقلت به في قرى البقاع، إلى أن صارت به إلى بيروت، وهناك ساقت له الأقدار شيخاً جليلاً كان صديقاً لأبيه، فضمه إليه، ثم ألحقه بالديوان لينال منه ما يقيم حياته ويكفل معاشه. ثم انتقل الأوزاعي إلى دمشق، حاضرة الخلافة، وقبلة العلم والعلماء، ومنها انطلق إلى اليمامة والحجاز وغيرها من أمصار الإسلام. ثم اتجه قلبه أخيراً إلى حيث نشأ، فتحول إلى بيروت، واستقر بها إلى أن توفي مرابطاً (رحمه الله). (تاريخ ابن عساكر، ج35، ص157).
ومن جهته جد الفتى واجتهد، وشمر عن ساعد الطلب، ودار على الشيوخ والأعيان، وثنى ركبتيه في حلق الحديث ومجالس الفقه، ورحل في سبيل ذلك رحلات كثيرة، فحمل عن شيوخ بلده في البلاد الشامية وأخذ عن علماء مكة والمدينة واليمامة والبصرة والكوفة.
وتمكن الإمام (رحمه الله) بعقليته الفذة وفهمه العميق ونظرته الواسعة، أن يصهر ذلك في بوتقة واحدة، استطاع من خلالها أن يُشكل معلمة بارزة وظاهرة متميزة في الجمع بين مدرستي الحديث والرأي، مما مكنه أن يكون بحق محدثاً وفقيهاً، ثم صاحب مذهب بعد ذلك.
وكما تنوعت موارد الإمام ومصادره في علومه، كذلك تفنن في أساليب طلب العلم وتحصيله، فأخذ عن أشياخه بالقراءة عليهم، والسماع منهم وسؤالهم، كما حمل عنهم بالإجازة والمناولة والمكاتبة، فحصل من كل ذلك علماً غزيراً طيباً مباركاً فيه.(التاريخ الأوسط، البخاري، ج1 ص401)
ثالثاً: علمــــــــــــــــــــــه:
وعى الإمام (رحمه الله) حديث الشاميين، ورحل إلى كبريات المدن الإسلامية التي تضج بحملة الآثار، وأخذ عن الجم الغفير من أوعية العلم وبحور الرواية، مثل: ابن جريح، وعطاء، وقتادة، والزهري، ونافع، ويحيى بن أبي كثير، ومن في هذه الحلبة من أمثالهم، أو من هو دونهم في كثرة الحديث.
وقد حمل الأوزاعي (رحمه الله) عن أشياخه بمختلف طرق التحمل، حديثاً كثيراً جداً، وأصبح واحداً من أئمة الإسلام الذين يدور عليهم الإسناد في الأمصار، وصنفوا إسناده ضمن أصح الأسانيد، واعتبروه أصح أسانيد الشاميين، وعده بعض الجهابذة النقاد من الراسخين في العلم، واعتبروه أعلم الناس بالسنة في بلاد الشام، ووصفه عبد الرحمن بن مهدي – وناهيك به – بأنه أحد أربعة أئمة حفاظ كبار في عصرهم، وقرنه بسفيان الثوري ومالك بن أنس وحماد بن زيد.
واشتهر الأوزاعي (رحمه الله) بحفظه وإتقانه وتثبته وتحريه في التحمل والأداء، وتخيره للأحاديث، وانتقاده للأسانيد، وعرضه الحديث على أشياخه من صيارفة الآثار، واعتمد في رواية السنن على ذاكرته، وحض الناس على الحفظ وتلقي العلم من أفواه العلماء، لكنه لا يرى بتدوين السنة بأساً، بل إنه كتب في مرحلة مبكرة من طلبه العلم عن شيخه يحيى بن أبي كثير علماً كثيراً جداً…
ولم يكتف هذا الإمام (رحمه الله) برواية الحديث، بل فتش عن الرجال وتكلم في الرواة جرحاً وتعديلاً، ونقل عنه في هذا الباب كلام كثير قيم، اعتمده النقاد ممن جاء بعده.
وقد أكثر الأوزاعي (رحمه الله) الرواية عن بعض أشياخه، مثل مكحول والزهري ويحيى بن أبي كثير، لذا عده النقاد من أصحاب هؤلاء.
وبمقابل ذلك أخذ عنه جماهير من علماء الحديث ورواة الآثار، واشتهر عدد منهم بالإكثار عنه، وإتقان حديثه، والتثبت فيه، وذكر العلماء جماعة من أصحاب الأوزاعي الذين اشتهروا بملازمته، وأنهم أثبت الناس فيه، وأكثرهم رواية عنه ونشراً الحديثه. (الإمام الاوزاعي، عبد الستار الشيخ، مرجع سابق، ص175 – 177)
وقال العباس بن الوليد بن مزيد: سمعت أبا مسهر، يقول: (لقد حرصت على جمع علم الأوزاعي، حتى كتبت عن إسماعيل بن سماعة ثلاثة عشر كتاباً، حتى لقيت أباك فوجدت عنده علماً لم يكن عند القوم). (تهذيب الكمال، المزي، ج31 ص81)
وقال الحافظ الذهبي (رحمه الله): ذكر بعض الحفاظ أن حديث الأوزاعي نحو الألف، يعني المسند، أما المرسل والموقوف فألوف. وهو في الشاميين نظير معمر لليمانيين، ونظير الثوري للكوفيين، ونظير مالك للمدنيين، ونظير الليث للمصريين، ونظير حماد بن سلمة للبصريين). (سير أعلام النبلاء، للذهبي، ج7 ص132).
کما لمع نجم الأوزاعي (رحمه الله) في الفقه والفتيا، مثلما برز في الحديث والرواية، وسئل عن الفقه سنة (١١٣هـ) ـ وعمره خمس وعشرون سنة، ولم يزل متصدراً للإفتاء إلى أن توفي سنة ١٥٧هـ.
ومن أبرز ما يميز فقه الإمام (رحمه الله) تمسكه بالحديث ومتابعته للآثار وأقوال الصحابة، والعقل النافذ، والحجة القوية . وقد ناظر بعض أكابر فقهاء عصره، فغلبهم بقوة حجته وصحة استدلاله ووضوح منطقه. ولقد كانت تعرض عليه المسألة ليس عنده فيها أثر، فيتردد في الإجابة، ثم يقول فيها رأيه بعد إلحاح السائل. (تاريخ الإسلام، للذهبي، ص491)
وبسبب هذه المنزلة في الحديث والفقه، ولشهرة الإمام وجلالته، التف حول الإمام جماعة من العلماء الكبار، حملوا عنه علمه، ونشروا حديثه وفقهه، فصار له مذهب مستقل، عَمِل به الناسُ بعده في المغرب والأندلس زهاء خمسين سنة، وفي الشام قرابة مئتي سنة. ويتناول فقه الأوزاعي جميع أمور الإسلام، ومختلف أبواب الفقه المعروفة، وله مصنفات فقهية من أشهرها: «السير». (الإمام الاوزاعي، مرجع سابق، ص236)
رابعاً: أخلاقه وشمائله:
تطلعت نفس الإمام وروحه وعقله إلى طلب المعالي، وعزم على أن يأخذ منها بالنصيب الأوفر، فاتجهت همته إلى العلم، وتعلقت روحه بالعبادة، وصممت إرادته على الاستمساك بالحق والاستبسال في سبيله، واستوعبت نظرته ما يجيش به المجتمع بمختلف شرائحه، فعاش بين الناس والعلماء والحكام والأمراء.
وكانت عبادة الأوزاعي على نحو فذ، فكان إذا دخل في صلاته انخرط في خشوع عجيب، فكأنه جسد بلا روح، ويُحيي الليل قرآناً وبكاء حتى يبلل الحصير من دموعه، وقد تحدثت زوجته وبعض المقربين منه بأنهم كانوا يرون البلل في مسجده وبعد فراغه من صلاته يُقبل على الذكر والدعاء، ولا يكلم أحداً، حتى إذا فرغ من ورده أقبل على تلامذته فيفيض معهم في ذكر المعاد. (الإمام الاوزاعي، مرجع سابق، ص63)
قال صفوان بن صالح : حدثنا الوليد بن مسلم، قال: “رأيتُ الأوزاعي يثبت في مصلاه، يذكر الله حتى تطلع الشمس، ويُخبرنا عن السلف: أن ذلك كان هديهم، فإذا طلعت الشمس، قام بعضهم إلى بعض، فأفاضوا في ذكر الله، والتفقه في دينه“ (تاريخ ابن عساكر، مرجع سابق، ج35 ص185)، وكان يكثر من النوافل وتلاوة القرآن، ووصفه بعض من رآه بأن صلاته تشبه صلاة عمر بن عبد العزيز، وأنه لم ير أحداً أكثر اجتهاداً في العبادة منه، ولا سمع بأحد قوي على العبادة مثله.
وكان قلب هذا الإمام معلقاً ببيت الله الحرام، فأكثر من الحج والاعتمار، وجمع إلى ذلك: السخاء والكرم، والتواضع والحلم، والرأفة بالناس ولين الجانب لهم، ومن جميل أخلاقه وكريم شمائله أنك تراه يشيع أضيافه وتلامذته، ويسير معهم مسافة طويلة تكرمة لهم، ويُقبل على جليسه ويستشير خادمه. (الإمام الاوزاعي، عبد الستار الشيخ، مرجع سابق، ص64)
قال أبو هران يزيد بن سَمُرة الرُّهَاوِيّ : (كان الأوزاعي من أسخى الناس، وإن كان الرجل ليُعرض بالشيء، فينقلب الأوزاعي، فيعالج الطعام، فيدعوه) (تاريخ ابن عساكر، مرجع سابق، ج35 ص199)
خامساً: وفاته:
توفي الإمام عبد الرحمن الأوزاعي (رحمه الله) في مدينة بيروت، في يوم الأحد من شهر صفر عام 157 هجري، عن عمرٍ ناهز تسعة وستين عاماً (البداية والنهاية،ابن كثير، ج10 ص120)
المراجـــــــــــــــــــــــــــع: