الاستبداد السياسي مؤذن بخراب الدول
عُرِف الاستفراد بالسلطة والتحكم في رقاب الناس والاستئثار بخيرات مجتمعهم، في تاريخه الطويل بأسماء مختلفة ليس الاستبداد إلا واحدا منها. وربما عُد مفهوم الطغيان من أقدم المفاهيم التي اختلطت بمفهوم الاستبداد،
تعددت صور واشكال وانواع الاستبداد, فتمثلت في الاستبداد الفكري والاستبداد الاقتصادي والاستبداد الاجتماعي و ….
فالاستبداد الفكري هو ممارسة التضييق على الفكر ومحاصرة المفكرين , ومحاولة فرض افكار معينة ومحددة تخدم طرف معين دون باقي المكونات الاخرى التي تمثل كيان الدولة , وحصر التفكير في نظرية واحدة او ايدولوجية واحدة, ومن يخالفها مصيره السجن أو القتل أو النفي .
والاستبداد الاقتصادي يتمثل في سيطرة فئة معينة من المجتمع على مقدرات البلاد وثرواتها, وتتحكم في مفاصل الصادرات والواردات التجارية للدولة , وتجعلها حكرا عليها لتعيش في بحبوحة في حين يحرم الشعب من الاستفادة من مقدراته ويعيش الفاقة والفقر والمرض .
في حين يكون الاستبداد الاجتماعي عامل استبداد واستعباد تقوم به فئة قليلة حاكمة تتمثل في عرق أو دين أو لغة أو قبيلة أو طبقة معينة ذات مصالح مشتركة تختزل كل مقومات الدولة وتسخرها في خدمتها لتتمكن من الاستئثار بالسلطة دون غيرها من المكونات الاجتماعية المكونة للدولة .
كل هذه العناصر والصور من الاستبداد المتنوعة لها اثرها وتأثير؛ سواء بشكل منفرد أو مجتمعة مع بعضها البعض, أو باجتماع صور منها تعتبر عوامل مؤثرة في سقوط الدول وتعجل بانهيارها.
لاحظ ابن خلدون أن الدول تمر بعدة تطورات من ناحيتين هما: الأحوال العامة من السياسية والاقتصاد والعمران والأخلاق، والتطورات التي تحدث من ناحية العظمة والقوة والاتساع. ويقرر أن كل دولة تنتقل بين خمسة أطوار هي: الظفر، والانفراد بالمجد، ثم الفراغ والدعة، ثم طور القنوع والمسالمة، ثم الإسراف والتبذير.
يربط ابن خلدون أطوار الدولة الخمسة بثلاثة أجيال فقط، فالجيل الأول يقوم بعملية البناء والعناية، والجيل الثاني يسير على خطا الجيل الأول من التقليد وعدم التجديد، أما الجيل الأخير فيمكن تسميته بالجيل الهادم، “فالدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص”، على حد تعبيره.
والجيل الاخير هو من تسقط على يديه الدولة وتنهار بسبب الصراعات التي يتخلص فيها الحاكم من أعوانه المقاسمين له في الحكم، ليبقى وحده مستبدا بالأمر دون غيره، وقد لا يستلزم الانهيار صراعا وإنما سقوطا حرا لأسبابه الطبيعية، كالتخلف والفقر والضعف وأهمها “الظلم” والاستبداد ,
والأدلّة على تحريم الظُّلم مِنَ القرآن والسّنّة كثيرة لَا تُحْصَى، ويكفي أنَّ الله سُبْحَانَهُ حَرَّمَهُ على نَفسه وجعله مُحَرَّمًا بَين عباده، وأخبر سبحانه أنّه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط ، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض، كما يشير إِلى ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25)، وما ذلك إِلَّا لِأَنَّ الظلم سببٌ لخراب العمران، وزوال الدُّوَل، وفناء الأمم، ووقوع الفوضى، وضياع المستقبل. وقد حَذَّر العلماء من فقهاء السياسة الشرعية من ا النتيجة الحتمية للظلم، وَنَبَّهَوا على المفاسد النَّاشِئَةِ مِنْ ذلك، و من هؤلاء العلماء الْإِمَامُ الماوردي (المتوفى سنة 450هـ) الذي يقول: “إِنَّ مما تصلح به حالُ الدنيا: قاعدة العدل الشامل الذي يدعو إلى الأُلفة، ويبعث على الطاعة، وتَعْمُر به البلاد، وتنمو به الأموال، ويكبر معه النَّسْل، ويأمن به السلطان، وليس شيءٌ أسرع في خراب الأرض، ولا أفسد لضمائر الخلق من الجَوْر؛ لأنه ليس يقف على حدٍّ، ولا ينتهي إلى
غاية”. كما يؤكد على هذا المبداء شيخ الإسلام ابن تيمية (المتوفى سنة 728هـ) حين نجده يقرر أنَّ العدل الذي يتوصل الناس إِليه بعقولهم يحمي مجتمعهم من السقوط وإنْ كانوا كفارا، في حين أنَّ المجتمع الذي يرعى الظلم أو يغض الطرف عنه يسقط ولا بد وإنْ كان مُسْلِمًا، فيقول : ” وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإنْ لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إِنَّ الله يقيم الدولة العادلة وإنْ كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإنْ كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام. .. وذلك أنَّ العدل نظام كلِّ شيء، فإذا أُقيم أمر الدنيا بعدلٍ قامت، وإنْ لم يكن لصاحبها في الآخرة من خَلاق، ومتى لم تَقُمْ بعدلٍ لم تَقُمْ، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يُجزى به في الآخِرة”
. أما الْعَلَّامَة ابن خلدون الذي توفى سنة 808هـ – فقد تناول أثر الظلم وعواقبه على المجتمع في مواضع كثيرة مِنْ كتابه “ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب… “، فخصص له فصل مستقل بعنوان “الظلم مُؤْذِنٌ بخراب العمران” فقال: ” اعْلَمْ أَنَّ العدوان على النّاس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لِمَا يرونه حينئذ مِنْ أَنَّ غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم، وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السّعي في ذلك ….. والعمران ووفوره ورواج أسواقه إنّما هو بالأعمال وسعي النّاس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجاءين، فإذا قعد النّاس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران وانتفضت الأحوال و تفرق النّاس في الآفاق، فخفّ ساكن القطر وخلت دياره واختلّ باختلاله حال الدّولة والسّلطان “. وقد توسع في بيان أنواع الظلم وبَيَّنَ أَنَّهَا لا تقتصر فقط على الظلم المادي الملموس, وإِنَّمَا تتعدى لتشمل الظلم النفسي والمعنوي الذي قد يكون أقسى وَقْعًا وأشد أَثَرًا.
وقد جاءت نصوص قرآنية عِدَّة تقرر وتؤكد على هذه السُنَّةَ في قوله تعالى :{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (القصص: 37)، وقوله تعالى : {وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ} (هود: 117).
فكل النصوص الشرعية والسنن الكونية والحتمية التاريخية والتحولات المجتمعية تتطابق أن الاستبداد مؤذن بخراب الدول وضياع الامم وزوالها والحقيقة الجوهرية هي دول أن دولة الاستبداد ساعة ودولة العدل باقية إلى قيام الساعة .