البيتكوين والفقه والاقتصاد
أ. مراد فياض
منذ أيام مرت عليّ فتوى حول العملات الرقمية، من قبل لجنة تتبع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
وبالنظر إلى قائمة أسماء أعضاء اللجنة، نجد أنها كوكبة من العلماء ليس فقط من الراسخين في الفقه، بل معظمهم من المحسوبين على من قد يوصف بالمدرسة المقاصدية، وقادمين من خلفيات حركية ديناميكية، وممن ينظر إليهم أنهم من المهتمين بالمعاصرة والمنفتحين على العالم والمعنيين بانطلاقة الأمة إلى الأمام والتقدم نحو نهضتها إلخ، وهم من منظور تاريخي بحت، يمكن أن يتم اعتبارهم امتدادًا لمدرسة الرأي (كنموذج وليس بالضرورة كمذهب).
من المهم سرد هذا الوصف أولا، لأن هذه الخلفية لم تمنع أصحابها من الاشتراك مع الفقهاء التقليديين، أو حتى مع من يدعون الانتساب اليوم إلى مدرسة الحديث، في الموقف الرافض للعملات الرقمية وتحريمها.
و المسوغات الفقهية للتحريم متشابهة إلى حد كبير بين هذه المدارس المختلفة.
وقد يسأل سائل، ما المشكل هنا إذًا؛ مادام أنه قد تشابهت مواقف كل هذه المدارس؟
شخصيا لست متخصصا في العلوم الشرعية، و لا أنا متخصص في الاقتصاد، بل ولا أزعم حتى أن خبرتي في موضوع العملات الرقمية معمقة …. لكني ككثيرين غيري، أملك من الاطلاع العام الجيد في هذه المجالات الثلاثة، ومن التمكن في مجالاتي التخصصية، و من العقل الذي وهبنا إياه خالقنا، ما يجعلني أنظر إلى هذه الفتاوى بعقلية نقدية متسائلة، تتريث في قبول هذه الفتاوى دون تمحيص.
هذا وأنا شخص مؤمن بقوة بضرورة صناعة دور أكبر للفقهاء في المجال العام مما هو موجود الآن، بل قناعتي بهذا الأمر ربما تتجاوز الدور الذي يطلبه معظم الفقهاء لأنفسهم، وتتجاوز ما هو مطروح في التنظير الإسلامي الحديث السائد. ومع هذا أنا مقتنع أنه على الفقهاء أيضا أن يكونوا في المستوى الفكري والموسوعي والفلسفي الذي يؤهلهم للعب هذا الدور، و إلا فالنتيجة عكسية.
بالعودة لموضوعنا، فإني أقول إن النظر بعقلية نقدية لمثل هذه الفتاوى ضرورة، من أجل الحفاظ على قداسة الفتوى نفسها، لأن أخوف ما نخافه، أن يجد الفقهاء أنفسهم مضطرين لمجاراة الواقع بشكل متأخر، وتغيير الفتاوى بشكل استدراكي، وأن يستوعبوا ماهية موضوع الفتوى بعد الفوت، وأن يلتحقوا بالركب بعد رحيله.
وهذا التخوف عندنا مبني على تجارب تاريخية فعلية، تبدأ لعلها من فتاوى المطبعة في القرن الخامس عشر الميلادي، وتظهر جليا لاحقا في العصر الحديث، مثل ما يُروى عن فتاوى “حنفية” المياه، إلى بعض الآلات الحديثة وقضايا الفن والطب الحيوي وبعض قضايا البنوك والتأمين وفتاوى الأقليات.
وإن كان التلكؤ في فهم بعض متغيرات العصر قد كان يُعذَر به بعض أهل العلم في بداية الاحتكاك بالعصر الحديث، مع التأكيد للأمانة أن هذا التلكؤ قد انخفض في العقود الأخيرة؛ حتى عند فقهاء المدرسة التقليدية،
وهو عند الفقهاء الحركيين المقاصديين يتوقع أن يكون أخف حتى، فإنه من الملاحظ أنه عندما نأتي للموضوع الاقتصادي نحتاج إلى نقاش منفصل.
فعلى الرغم من الجهد العظيم والإنتاج الثري الذي بذل من الفقهاء في الاقتصاد الإسلامي في آخر نصف قرن (وأنا من المؤمنين فعلا بمصطلح الاقتصاد الإسلامي ولست مع الموجة الجديدة النافية لحقيقته)، على رغم من ذلك، يبدو هذا الجهد منصبا في غالبه على جانب المعاملات المالية والصيرفة، ولأسباب وجيهة على الأرجح بسبب حجم الاحتياج لها.
لكن المشكل أن هذا المجال المعاصر، أي الاقتصاد الإسلامي، تستشف من خلال كثير من الفتاوى الصادرة عنه، أنه لم يتعامل مع الاقتصاد الحديث من ناحية بنيوية. فلا تزال فتاوى الفقهاء في الأمور الاقتصادية تستند بدرجة كبيرة على القياس إلى مفاهيم فقهية اقتصادية موجودة بالتراث … وهنا نأتي إلى بيت القصيد.
ارتباط الفتاوى بالتراث في العموم شيء طبيعي بل ضروري، خصوصا في جوانب العبادات والعقائد، وهو كذلك في عموم أبواب المعاملات أيضا، لكن في المعاملات سيكون ذلك نسبيا بقدر تشابه سياق الواقع مع السياق التاريخي.
وهذا ما نقصده هنا في قضية التعامل مع الاقتصاد الحديث من ناحية بنيوية. فالاقتصاد البشري في آخر 300 سنة مر بتغير جذري جعله يختلف عن كل ما سبقه.
300 سنة من اقتصاد الثورة الصناعية والرأسمالية، ثم ما تلاها من الاقتصاد الرقمي؛ لابد من هضمها بالكامل، لأن هذا الاقتصاد يختلف كليا عن منظومة حقبة الاقتصاد الزراعي التي سبقت الثورة الصناعية، والتي كانت سائدة منذ بداية الحضارة الإنسانية. تلك الحقبة التي تنتمي إليها بطبيعة الحال معظم فتاوى تراثنا الفقهي الاقتصادية.
ومن ثم، فإن ارتباط الفتاوى الاقتصادية الحديثة بفتاوى التراث الاقتصادية؛ يفترض أن يكون محدودا جدا، ليس لعيب في فتاوى التراث، بل لأن الموضوع الذي عالجته فتاوى التراث الاقتصادية (اقتصاد زمانها) يختلف جذريا عن الموضوع الذي يفترض أن تعالجه فتاوى الاقتصاد الحديثة، خصوصا عندما تكون فتوى التراث مبنية على تقديرات المصلحة في سياقها أكثر من كونها مبنية على نص شرعي صريح.
وهذا ما يحتم على الفتاوى الحديثة في المجال الاقتصادي تحديدا، أن تكون مستنبطة بالأساس من المصدر الأصلي، أي من النصوص الشرعية، وبدرجة أقل بكثير يكون استئناسها بآراء من سبق من فقهاء سابقين. وفي رأيي هذا وضع خاص بالمجال الاقتصادي وبعض المجالات الأخرى لخصوصية التغيير التاريخي فيها، وليس منهجًا عامًا يستعمل للقفز على التراث بشكل كلي.
فعندما نجد فتوى اقتصادية في نازلة حديثة، معتمدة في أكثر من تسعة أعشارها على كلام فقهي تراثي ورد من ألفية مضت لسياق تاريخي مختلف عن النازلة، وأقل من عُشر الفتوى فيه محاولة استناد على نص شرعي، أو فتوى اقتصادية تتعاطى مع مفاهيم نقدية اندثرت، أو على وشك، ولا تدرك أننا على أبواب زمن يصبح فيه المال كله افتراضي وغير ملموس، أو فتاوى اقتصادية ترفض التعاطي بالكامل مع حقيقة القيمة الزمنية للمال وفلسفة ذلك وتعقيداته .. فإننا حقا أمام مشكلة بنيوية في التعامل مع واقع النوازل الاقتصادية، وهذا أمر متعلق بفتاوى المجال الاقتصادي في المجمل.
وبالرجوع لقضية العملات الرقمية وفتوى اللجنة المذكورة، فإنه يجب توضيح أن اللجنة وبرغم تحريمها للعملات الرقمية، إلا أنها في الفتوى تركت الباب مفتوحا؛ لإزالة الحرمة من خلال بعض الشروط، وهذا مما يحسب في رأيي لهذه اللجنة، وقد يشير إلى فطنة منها بتوقع اضطرار لتغيير الفتوى مستقبلا. لكن تظل إشكالية الأسباب الواردة للتحريم أساسا .. فهل هي معايير معتمدة على نصوص الوحي أساسا؟ أم معايير اجتهادية مصلحية لبعض السلف “قد” تكون ناسبت واقعهم حينها؟
والتخوف الأكبر و الأخطر، أن تكون أسباب تحريم العملات الرقمية من مختلف المدارس الفقهية الحالية، مرتبطة بوعي أو بدون وعي، وبشكل مباشر أو غير مباشر .. بأعراف منظومات النفوذ والهيمنة السياسية الدولية والمحلية القائمة.
من نافلة القول إن هذه التدوينة ليست فتوى، ولا حتى رد فتوى، لكنها كما أشرنا وقفة للتريث والتمحيص بعقل نقدي وقلب محب، مع اجتهاد الموقعين عن رب العالمين، من أجل أن يحتفظ التوقيع بمكانته وقدسيته، وأن يكون حقا أقرب ما يكون لمراد وحي الرب ومصلحة العالمين.
وما أصبنا فيه في هذا الكلام فبتوفيق من الله .. وما أخطأنا فيه فمن نفسي وجهلي ومن الشيطان، والله تعالى أعلم.