التاريخ كله تاريخ معاصر!

أ. محمد خليفة نصر
كتاب الله ليس كتاب تاريخ، لكن فيه ذكر لتاريخ ما قبل التاريخ، وتاريخ ما بعد التاريخ. وليس هذا كل ما في الأمر؛ إذ يلتقي في القرآن تاريخ ما قبل التاريخ وتاريخ ما بعد التاريخ، حتى يختفي الزمن أو يكاد. وهذا ما لا يمكن استيعابه إلا بعد فهم مسألة نسبية الزمن. ولما كان القرآن هو المصدر الأول للعلم والمعرفة عند المسلم الحقيقي، فسأبين نسبية الزمن من خلال آيتين من كتاب الله:
1) يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون (السجدة).
2) تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة (المعارج).
إذا اعتمدنا على الآية الأولى في حساب الزمن، فأن المسافة الزمنية بيننا وبين الفراعنة ستكون خمسة أيام، على افتراض أن الفراعنة قد عاشوا قبل خمسة ألاف سنة. وإذا اعتمدنا على الآية الثانية في حساب الزمن، فعندها سيكون كل تاريخ الإنسانية المعروف قد تم في يوم واحد أو أقل! وعلى هذا الأساس يمكن أن يكون التاريخ كله تاريخ معاصر.
وبهذا الفهم تصبح فرضية “التاريخ كله تاريخ معاصر” فرضية علمية اعتمادًا على ما قرره القرآن في نسبية الزمن. مرة أخرى؛ اليوم قد يقصر حتى يكون أربعة وعشرين ساعة، وقد يمتد ليصبح ألف سنة أو خمسين ألف سنة. ثم يختفي الزمن في البرزخ حتى إذا بُعث الموتى ظنوا أنهم لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها. هذه القراءة القرآنية لنسبية الزمن تصادف في عالم الأفكار من يؤيدها، من غير المسلمين، بطريقة أو أخرى.
الفيلسوف الانجليزي ألفرد نورث وايتهد (1861-1947) يقول إن الفلسفة الاوربية ليست شيئًا أكثر من هوامش على افلاطون. وافلاطون عاش في القرن الرابع قبل الميلاد (427-347 ق م). وهذا معناه أن الفلسفة الاوربية عاشت تدور حول نفسها ألفان وثلاثمائة سنة. وهذا التقرير يجعل قول الإيطالي بنيديتو كروتشه (1866-1952) “التاريخ كله تاريخ معاصر” من الاقوال التي يؤيدها النقل (المعتمد على الوحي) والعقل (المعتمد على التجربة التاريخية).
وما سلف من حديث له صدى حتى في الفانتازيا السياسية؛ فهذا أنور السادات مثلاً يقول “إنه وعبد الناصر آخر فراعنة مصر”! والحقيقة إن طغيان عبد الناصر وطغيان السادات لا شبيه له إلا طغيان فرعون، فهو من نفس النوع، وإن ابتعدت المسافة الزمنية بين فرعون مصر القديمة وفراعين مصر المعاصرة. فالفرعنة زمن ممتد وممارسة مستمرة، حتى وإن ظهر فرعون في صور غير مصرية: (امبراطور روماني أو ياباني، وملك فرنسي أو انجليزي، وزعيم إيطالي أو ألماني)!
وفقًا لهذا التصور للتاريخ لا جديد على مستوى الشرك والمشركين سوى تحول الأصنام إلى منحوتات فكرية بعد أن كانت حجرية، والعودة إلى القرابين البشرية بعد أن اختفت لزمن طويل نسبيًا، بحساب البشر، غير أن غالب البشر لا يدرك ذلك لضحالة الفكر وسطحية الإدراك.
الجوهري في الموضوع هو الاعتبارات التي لا يغيرها الزمن مثل مبحث التوحيد وتعدد الآلهة، ومثل تقديم أبناء الحركة الإسلامية قرابين لإلهة من نوع “الدولة” و”الثورة”، دون أن يكون أبناء المسلمين قادرين على كشف البعد الطاغوتي في الفكرتين، ودون إدراك لحقيقة أن الكفر بالطاغوت هو السبيل الى حرية منضبطة على المنهج الإسلامي (الشريعة). وباختصار شديد؛ الآية التي تربط بين الحرية والكفر بالطاغوت هي الآتية: “لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم”.
الحرية في الجمع بين الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، والضياع في التمسك بأحدهما وترك الآخر، إذ كان أبو جهل يؤمن بالله ولا يكفر بالطاغوت، وكان نيتشه يكفر بالطاغوت ولا يؤمن بالله، فظل الاثنان، لأن الهدى في الكفر بالطاغوت والايمان بالله. الكفر بالطاغوت قبل الإيمان بالله هو الكفر المنشود لإعادة الفاعلية للإسلام المحطم تحت وطأة أصنام الجاهلية وطغيان الفراعنة.