اجتماعيةمقالاتمقالات الرأي

التبيئة المذهبية ضرورة ملحّة

 

أ‌. مصباح الورفلي

قد يرى القارئ للوهلة الأولى عند قراءته للمقالة أن ما ندعُو إليه الرجوع للعصبية المذهبية في وقت التغيّرات المعاصرة، التي تكيّفت مع اللا مذهبية؛ متخذةً مقولة: “أينما صح الدليل هو مذهبي”، ولكن في الوقت ذاته لا يمكن أن نغفل عن مكانة المذهب المالكي في بلاد المغرب عمومًا، وبخاصة بلادنا، لمواكبته للمستجدات والقضايا الطارئة على اختلاف سياقاتها ومقتضياتها، الأمر الذي يبرز لنا مدى تجذّر هذا المذهب، وتشبّت المغاربة جميعًا به دون غيره من المذاهب عبر التاريخ.
الحقيقة لسنا الآن بصدد ذكر أسباب تجذّر المذهب المالكي في بلاد المغرب جملة واحدة، على أننا سنتطرّق إليها في سلسلة مقالات لاحقة، بإذن الله، لعلنا نوفيها بما يليق بمكانة وأعلام المذهب المالكي، وما أردت هنا الإشارة إليه هو البيئة أو الطبيعة المغاربية المحلية، التي تكيّفت وتوافقت والمذهب المالكي ومؤسسه، حتى حظيا باهتمام وقبول كبيرين؛ أوصلته للريادة محليًا في بلادنا المغاربية، وعالميًا وهو ما يسمى بالتكيّف البيئي للمذهب.
لقد استطاع المذهب المالكي التكيّف مع البيئات المتباينة، التي انتشر فيها، وهذا يعود لخصائصه المتمثلة في أصوله. لو رجعنا لبدايته على يدي مؤسسه، الإمام ملك بن أنس رحمه الله؛ فإننا نجد أن أصول المذهب التنزيلية التي تعامل بها الإمام مالك مع الوحيين “الكتاب والسنة”، ومكّنته من استنباط الأحكام رعى في مجملها مقتضيات الواقع، بكل تفاصيله الاجتماعية والعرفية، منفتحًا عليه لإيجاد ملاءمة له كالاستحسان، وفتح الذرائع وسدّها، والمصالح المرسة، وأخيرًا عمل أهل المدينة الذي أساسه بيئته الاجتماعية، التي عاصرت النبي، صلى الله عليه وسلّم، وأقرت بسنّته القولية والفعلية والتقريرية؛ حتى أضحت حجّة وأصلاً للمذهب.
الأصل البيئي، إن صحت هذه المقاربة الاصطلاحية، أعطت انفتاحية للمذهب بالتكيّف مع بيئاته المختلفة؛ ولا سيما بلادنا المغرب الإسلامي الذي استوعب سياقات تفاصيلها، فضلا عن المستجدات الطارئة في كل وقت وعصر.
ما نريد إبرازه ونُوليه أهمية قصوى بعيدًا عن تهم التضييق والتعصّب المذهبي ما ذهب إليه بعض المؤرخين من أن المذهب المالكي تكيّف مع الأقاليم والبلدان التي انتشر فيها، فهنالك طريقة مذهبية للعراقيين تختلف عن طريقة الأندلسيين، وكذلك في مصر، فمثلا لو اطّلع أحد على المسائل الفقهية المالكية في العراق، يجدها يغلب عليها إجماع الرأي وإثبات الاستدلال، بينما عند المغاربة يغلب عليها مراعاة العمليات، وتكيّف الأحوال والعادات، والملابسات النفسية والاجتماعية والسياسية لبلاد المغرب الإسلامي، وكذلك الحال في المدرسة الأندلسية التي ارتبطت بالواقع ارتباطًا وثيقًا أجابت عن قضايا المسلمين بالأندلس في معتقداتهم وسلوكياتهم ومعاملاتهم، ومع طبيعة المجتمع الأندلسي المتنوّعة بالديانات والأعراق وطبقاته عمومًا؛ متكيّفة مع المستجد منها ومقرّة بما هو موجود في السابق من آراء فقهية؛ استساغها الأندلسيون وجبلوا عليها.
ومما سبق لا يفهم من سردنا أننا نقلل أو نرفض آراء المذاهب السنيّة الأخرى؛ ولكن ما نريد تأكيده هو أن المذهب أضحى واقعًا تاريخيًا وبيئة ثقافية وفكرية للمغاربة عموما وبلادنا خاصة، واختيارًا ارتضاه الجميع؛ ولهذا نحن اليوم بمسيس الحاجة لإعادة النظر في تراثنا الفقهي المالكي، وجعله يأخذ المكانة اللائقة به لإحيائه وتجديده أمام التحديات الراهنة، وقطعا للخلافات والتوترات وضمانا للاستقرار لأنه الكفيل الوحيد لتحقيق وحدته الفكرية والعقدية والمذهبية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى