عاممقالاتمقالات الرأيمقالات فكرية

التفلسف بالمطرقة.

أ. محمد خليفة نصر

عندما يعتقد مفكر أن من واجبه، أو من مهامه، التفلسف بالمطرقة لأن “الأصنام أكثر مما يظهر في واقع العالم”، فلابد من التوقف عند هذا المتفلسف وبحث مدى إمكانية الاستفادة من فلسفته أو مطرقته. المفكر الذي اتحدث عنه هو الألماني فريدريش نيتشه (1844-1900). وفي وصف منجزه بالمطرقة يقول نيتشه إنه: “العمل التدميري الذي أجهزت به على ألفي سنة من مناقضة الطبيعة”

اتخذ نيتشه من التفلسف بالمطرقة حرفةً له دون وجل، وله تصريح بالخصوص يقول فيه: “تحطيم الأصنام (وهذه كلمتي المفضلة للتعبير عن “المُثل”) هي حرفتي”. والداعي لهذه الحرفة هو اختراع افلاطون لعالم المُثل! اختراع افلاطون هذا جرّد الواقع “من قيمته ومن معناه” في نظر نيتشه، ولذا تراه يركز هجومه على هذه البدعة لأن: “أكذوبة المُثل ظلت إلى حد الآن اللعنة الحائمة فوق الواقع، وعبرها غدت الإنسانية نفسها مشوهة ومزيفة…”!

كان نيتشه في الواقع، غير المنظور، يمهد الأرض لدخول الإسلام إلى أوربا. الإسلام الذي صدته طواغيت أوربا إلى حد الآن لن يصده شيء عندما تُحطم أصنام الفكر عن آخرها. في السياق الإسلامي؛ ما تمثله المُثل وما تمثله الأصنام شيء واحد، وهو مناقضة الطبيعة، أي مناقضة الفطرة السليمة في لغة إنسان مسلم، ونيتشه ليس كذلك.

وبالرغم من أنه غير مسلم شرع نيتشه في تحطيم الأصنام واحدًا بعد الآخر، ابتداءً من مُثل افلاطون وصولاً إلى آخر الأصنام ظهورًا في عصره وهو “الدولة”. أعطى نيتشه الدولة وصف “الصنم الجديد” في كتابه “هكذا تحدث زرادشت”، حيث وصفها بأنها الوحش الأشد برودة بين الوحوش الباردة! وعلى لسان هذا الوحش تجري كذبة: “أنا.. الدولة.. أنا الشعب”!

ويفضح نيتشه هذه الكذبة على لسان زرادشت، بالسخرية من الذين يعبدون الدولة، فينادي عليهم بما يليق بهم من وصف وهو “أصحاب الآذان الطويلة”، قائلاً على سبيل الوعد الزائف: “سيعطيكم كل ما سألتموه، إذا عبدتموه، الصنم الجديد”! وما زال أصحاب الأذان الطويلة وخفاف العقول، في كل مكان، يعيشون على ذكر الدولة ويلهجون باسمها، لاعتقادهم أنها تملك خزائن الأرض وأقدار البشر.

كانت نظرية الدولة، في السياق الأوربي، تعكس الرغبة في تجاوز شرعية ممزقة بين الملك والبابا، بجعلها للدولة فقط. من هنا رأى بعض مؤرخي الأيديولوجيا أن “أيديولوجيا الدولة هي أيديولوجيا الواحد”
L’idéologie de l’Etat c’est l’idéologie de l’Un
ويعود أصل أيديولوجيا “الواحد” إلى فلسفة افلاطون، أما في العصر الحديث فقد أسس لها مكيافيللي، ونظر لها هوبس لتكون “الصنم الجديد”، الذي لا يُرى . أراد مكيافيللي تحرير الأمير من التراث اليهودي المسيحي، وأراد هوبس انهاء ثنائية السلطة (البابا والأمير) بجعل الملك على رأس المؤسستين (الكنيسة والدولة)، فجاءت الثورة لتقطع رأس الملك نفسه وتعزل الكنيسة عن المجال العام (السياسة).

وبذا أصبحت الدولة مصدر المشروعية الذي يختفي في عالم الأفكار. ولم ينتبه لهذه الحقيقة إلا القليل، ومنهم جورج بوردو الذي أعلن أن الدولة من عالم الغيب، حيث كتب (سنة 1970) يقول: “الدولة لم يرها أحد قط، ومع ذلك من بإمكانه أن ينفي وجودها في الواقع”!
Personne n’a jamais vu l’Etat. Qui pourrait nier cependant qu’il soit une réalité ?

المشرك يؤمن بالدولة غيبًا، مثلما يؤمن المسلم بالله غيبًا. والذين يؤمنون بالدولة غيبًا يؤمنون بها إلهًا يمّكنهم من أن يحلوا ويحرموا على هواهم، ويعطوا ويمنعوا على هواهم، ويمنحوا ويصادروا على هواهم، ودون اعتبار لما أنزل الله من شرع وما بعث من رسل.

في هذا السياق؛ الدولة هي الطاغوت الذي يصدر تراخيص لبيوت الدعارة ونوادي القمار وبنوك الربا! والدولة هي الطاغوت الذي يأذن بأكل السحت وشرب الخمر، وإبادة الإسلاميين. وهذا الطاغوت هو الذي يقول سرًا وجهرًا “ليس علينا في الأميين سبيل”!

الإسلاميون دمائهم حرام وأموالهم حرام وأعراضهم حرام، في شريعة رب العالمين. ومن أراد سفك دمائهم أو مصادرة أموالهم أو حرياتهم يلزمه إله يأذن له بما لم يأذن به الله! هذا الإله هو “الدولة” أو “الثورة”! وفي محاكم “أمن الدولة” و”أمن الثورة”، يحكم بالإعدام ومصادرة الأموال على الذين يكفرون بالطاغوت.

ــــ المُثل والأصنام شيء واحد، والتفلسف بالمطرقة والكفر بالطاغوت معنى واحد، وإذا قلنا إن الإسلاميين في حاجة لمطرقة نيتشه، فذلك لأنها سبيل من سبل تهشيم أصنام الحداثة. وبدون تحطيم أصنام الحداثة سيظل الإسلام الحقيقي مشروع “غير مشروع”، وسيظل الإسلاميون جماعة محظورة، بغض النظر عن انتمائهم الطائفي أو المذهبي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى