مقالاتمقالات الرأي

الخوارج ….. (بين خصوص المصطلح وتعميم الوصف)

د. أبوبكر العيش

الحمد لله رب العالمين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، والصلاة والسلام على إمام المتقين وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين .

من يعيش اليوم هموم الأمة عموما وفي حالتها الليبية خصوصا ، ويحاول فهم عللها وأزماتها ، لا يخفى عليه ما وصل إليه واقع خطابها الشرعي من أزمة حقيقية مُتجذّرة ؛ تَكمُن في مبادرات إفتائية جريئة ، تُطلقها أفواه متطاولة وأقلام غير بريئة ، تُسفك بسببها دماء معصومة ، وتُنتهك من جرّائها حُرمات وتُسلب أموال مَصُونة .

كل ذلك يحدث باحتواء سافر مُوجّه ، من قِبل أطراف خارجية لا هَمّ لها إلا أن تحصد أكبر عدد ممكن من أرواح المسلمين الليبيين وأموالهم ، وأن تصل ليبيا إلى أقصى مدة ممكنة من الفوضى والتخبط وعدم الاستقرار ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

ولعل من قرأ هذا المدخل يظن أنني سأتكلم عن الغُلاة الآثمين الذين يسمون أنفسهم ” تنظيم الدولة” أو “داعش” .

كلا … لن أتكلم عن أولئك الغُلاة المجرمين فأَمْر بَغيّهم وجُرأتهم على سفك الدماء وترويع المسلمين وتكفيرهم واضح لكل ذي لُبّ .

لكن هذه الأسطر تعالج قضية أخرى لا تقل خطورة عن أزمة ظُهور أولئك المجرمين ، وأيضا من سار في سياقها لا يقل غلوّا وإثما وإجراما عنهم .

إنها أزمة الطرف الآخر الذي يتخذ شماعة (الخوارج) مطيّة لتحقيق مآربه الطائفية على أرض ليبيا ، من خلال تصفية كل خصومه ، بل وتصفية كل (متديّن) لا يتْبع نهج شيوخه ومُنظّري تياره الدخيل .

 

فإن هذا اللفظ : (الخوارج) ليس مصطلحا مطّاطا يُطلق كيفما اتفق ، بحق وبغير حق ؛ بل هو اصطلاح تاريخي له جذوره السلفية الممتدة عبر التراث الشرعي المكتوب .

يقول الإمام أبو الحسن الأشعري (ت 324هـ) في مقالات الإسلاميين (1/23،84) : “فسُمّوا خوارج لأنهم خرجوا على علي بن أبي طالب -رضوان الله عليه-”

ثم يصف منهجهم بقوله : “أجمعت الخوارج على إكفار علي بن أبي طالب -رضوان الله عليه- إن حكم وهم مختلفون هل كفره شرك أم لا؟ ، وأجمعوا على أن كل كبيرة كفر …. وأجمعوا على أن الله – سبحانه – يعذب أصحاب الكبائر عذاباً دائماً”

ويزيد الإمام الشهرستاني(ت 548هـ) في الملل والنحل ( 1/113) في وصفهم : “ويجمعهم القول بالتبرؤ من عثمان وعلي رضي الله عنهما، ويُقدّمون ذلك على كل طاعة، ولا يُصححون المُناكحات إلا على ذلك، ويُكفّرون أصحاب الكبائر ويرون الخروج على الإمام إذا خالف السنة: حقا واجبا.”

وبعد استقراء لما كُتب عنهم في مصادر تاريخ الفرق (يُحوصل) الدكتور غالب عواجي في كتابه (فرق معاصرة 1/234) حقيقة هذا المصطلح فيقول : “والحاصل أن الخوارج بالمعنى الصحيح اسم يطلق على تلك الطائفة ذات الاتجاه السياسي والآراء الخاصة، والتي خرجت عن جيش الإمام علي رضي الله عنه والتحموا معه في معركة النهروان الشهيرة ”

هذا باختصار شديد من حيث تحديد معالم هذا المصطلح التاريخي المخصوص ، والذي عرفه علماء الأمة في القديم والحديث ، ومن ثم أبرزوا تلك المعالم في مصنفاتهم .

أما من حيث تنزيل هذا المصطلح على غيرهم ممن انتهج نهجهم فيقول الإمام ابن حزم ( ت 456هـ) في كتابه : (الفصل في الملل والأهواء والنحل90/2) : “وَمن وَافق الْخَوَارِج من إِنْكَار التَّحْكِيم وتكفير أَصْحَاب الْكَبَائِر وَالْقَوْل بِالْخرُوجِ على أَئِمَّة الْجور وَإِن أَصْحَاب الْكَبَائِر مخلدون فِي النَّار وَأَن الْإِمَامَة جَائِزَة فِي غير قُرَيْش فَهُوَ خارجي وَإِن خالفهم فِيمَا عدا ذَلِك مِمَّا اخْتلف فِيهِ الْمُسلمُونَ خالفهم فِيمَا ذكرنَا فَلَيْسَ خارجياً”

فيتّضح من هذا الكلام والذي قبله أن مسألة إلحاق أصحاب الأوصاف المشابهة بهذا المصطلح هي مسألة شمولية ؛ إذ لا يمكن إطلاق مصطلح :(الخوارج) إلا على من اتصف بتلك الصفات المذكورة مُجتمعة دون فقدان أحدها .

وإذا ما نظرنا في واقعنا المُتأزّم اليوم ، سوف نجد توسّعا بغيضا في التصنيف بهذا المصطلح المخصوص : (الخوارج) ، يُطلَق (سبهللا) على كل من وقع في دائرة الغضب الاستخباراتي أو الخلاف المنهجي مِن قِبل طائفة  تلبس لبوس الشريعة والمنهج والفرقة الناجية!! ، لكي تصل إلى تصفية كل من خالفها من عموم المسلمين (المتديّنين) منهم خاصة .

فأين هو سيدنا علي (رضي الله عنه) الذي خرج عليه هؤلاء المصنّفون ؟! ، وأين هو سيدنا عثمان رضي الله عنه الذي تبرأوا منه ؟!، وأين هو التحكيم؟! ، وأين البيّنة في تكفير هؤلاء المصنّفين لأصحاب الكبائر؟! ، وأين؟ وأين ؟ّ

وحتى على فرض اجتماع هذه الصفات –البعيدة- في كل من صنّفه هؤلاء اليوم بأنه من (الخوارج) ، واستباحوا بذلك دمائهم  ، فمَن أعطاهم حقّ تكفيرهم وحقّ استحلال أموالهم واغتصاب بيوتهم في بنغازي وغيرها .

ورد في التاج والإكليل (12/38) لأبي عبد الله “المواق” (ت 897هـ) : “قَالَ سَحْنُونَ فِي الْخَوَارِجِ : سَمَّاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَارِقِينَ وَلَمْ يُسَمِّهِمْ كُفَّارًا ، وَسَنَّ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِتَالَهُمْ فَلَمْ يُكَفِّرْهُمْ وَلَا سَبَاهُمْ وَلَا أَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ، فَمَوَارِيثُهُمْ قَائِمَةً وَلَهُمْ أَحْكَامُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ … تَقَدَّمَ نَصُّ الْقَرَافِيُّ : لَا تُحَرَّقُ مَسَاكِنُهُمْ وَلَا تُقْطَعُ أَشْجَارُهُمْ وَلَا يُسْتَعَانُ عَلَى قِتَالِهِمْ بِمُشْرِكٍ وَلَا يُوَادِعُهُمْ عَلَى مَالٍ ”

ونقل الإمام الشوكاني في نيل الأوطار (7/197)  قول ابن بطال : ” ذهب جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين من جملة المسلمين قال وقد سئل علي عن أهل النهروان هل كفروا فقال من الكفر فروا ”

وحتى لو وُجد قول هنا أو هناك بتكفيرهم -وهو خلاف الجمهور- ، فبأي حقّ ما نراه اليوم من اعتداء سافر على البيوت والممتلكات الخاصة في مدينة بنغازي وغيرها تحت ذريعة زائفة : أن أصحابها من ( الخوارج ) ، فحتى لو صدّقكم غائبو العقل والبصيرة !، فبأي حق وبأي دين وبأي فقه تُستباح البيوت والأرزاق، وحسبنا الله ونعم الوكيل .

ولمن لا يعجبهم النقل من علماء المالكية ولا من المتقدمين عموما ، ويَحصِر استقاء الفتوى في أهل الحجاز فقط ، هذا كلام الشيخ ابن عثيمين (مجموع فتاوى ابن عثيمين 7/45) :

“ولم يكفّرهم علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، لا لأنهم كفار. ولهذا لم يسب حريمهم، ولم يغنم أموالهم، وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص، والإجماع، لم يكفروا مع أمر الله ورسوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بقتالهم فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم، فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن يكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضا، وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعا جهال بحقائق ما يختلفون فيه”. إلى أن قال: ” وإذا كان المسلم متأولا في القتال، أو التكفير لم يكفر بذلك” .

 

وختاما ,,,

أقول : إذا كانت العبرة بالمصطلح : (الخوارج) ، فإنه لا وجود لهذه الفرقة اليوم على أرض ليبيا ، ولا أحد رأيناه أو سمعناه ينسب نفسه إليها .

وإذا كانت العبرة بالأوصاف ؛ فإن هذه اللفظة : ( الخوارج)  يمكن أن يُطلِقَها من شاء على من شاء ؛ لتصفية حسابات العصبية والعداوة والظلم والحسد والبغي .

وعلى هذا المنهج ؛ فكل من كفّر المسلمين واستباح دمائهم أموالهم وأعراضهم فهو (خارجي) كائنا من كان ، ولو سمّى نفسه : (الفرقة الناجية) ، بل ولو وضع على كتفيه الرتب العسكرية ورفع شعار : (الحرب على الإرهاب) !!

اللهم احقن دمائنا واحفظ بلادنا وسائر بلاد الإسلام

وصُن أموالنا وأعراضنا من كيد كل ظالم باغٍ

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين

وكتبه الفقير إلى عفو ربه سبحانه

أبوبكر محمد العيش السلطني

9-شعبان-1437

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى