عاممقالات الرأيمقالات فكرية

الدعوة والكتابة

الأستاذ: البهي الخولي

هناك كتاب يرون أن الإصلاح مقالات تكتب، أو تؤلف، فتصف لنا ما في الغرب من علم وسياسة، ونظام وحرية، وأسلوب خاص في الاستمتاع بلذائذ الدنيا، فإذا كتبوا أو ألفوا أو نشروا، ظنوا أنهم أدّوا رسالة، وخدموا أبناء وطنهم.
هذا الصنف قد يعجبك ويدهشك بكثرة اطلاعك على ما للقوم من علم وفلسفة وأدب وأوضاع اجتماعية وسياسية ونحوها، قد يدهشك هذا… أما أن هذا هو الرسالة الواجبة عليه لوطنه فلا.
اقرأ مقالة له أو كتابا، فإذا أحسست أنه ينقلك من محيط إلى محيط، ويكشف لقلبك آفاقًا روحية جديدة ، ويهدي إليك نفسك، أو بعض نفسك، ويدعوك في قوة وإيمان إلى الربانية الشاملة التي تهيئ لك حياة صالحة سعيدة، فيها للقلب حقه من معرفة الله، وللبدن حقه، فهو داعية فطن خبير، أما إذا قرأت فلم تجد إلا إنسانا يتحدث ليسليك، أو ليعرض عليك بالقلم، ما يصح أن تراه في السينما أو الصحف المصورة، أو ليطلعك على نوع ثقافته وكثرة معارفه، إذا قرأت فلم تجد إلا هذا؛ فاعلم أن صاحبك ببغاء مطموسة، لأن علمه لم يفتح له بصيرة، ولم يفقهه بحقيقة ما نحتاج إليه في النهوض والإصلاح، أنه ظن أن ما عند القوم هو المثل الأعلى لما تنشده الإنسانية من حضارة، وهذا جهل محض لا يزيله أن يستكثر صاحبه من معارف القوم أو يصطنع من أساليب معيشتهم، فإنه بهذا لا يزداد إلا إمعانًا في ضلاله وضلالهم.
عبيد يتغنون بمجد سادتهم
ولو أنه واثق بنفسه واعتز بشخصيّته. وأخذ ما تعلمه أخذ الناقد الممحّص لاستبانت له الحقائق، ولأهدى لأمته خيرا كثيرًا. ولكنه ألقى بكل ذلك عن كاهله، وألغى وجوده وإرادته، وأسلم نفسه لسادته يملأونها بما يشاؤون، ويفرغون فيها ما يريدون.. وهذا شر أنواع الاستعباد، لأنه الفناء التام للشخصية، ومن هنا تجد صاحب الثقافة الألمانية يتغنى بألمانيته، وصاحب الفرنسية يمجد فرنسيته، ومن تعلّم في إنجلترا فالإنجليز مثله الأعلى، وهكذا.. وحسبك من هؤلاء جهلا وضلالة، بل عمى وبلادة.
إن أحدهم لا يشرع قلمًا يعيب به على سادته أنهم يستبدلون الضعفاء، ويحتلون أوطانهم ويستأثرون بثرواتهم، بل إنه لا يكف عن التغني بما يتوهم لهم من مزايا ومآثر، فما رأينا مثلًا كاتبًا ذا ثقافة فرنسية أعلن على فرنسا حربًا بيانية على احتلالها تونس والجزائر ومراكش والسنغال والصومال، وما إلى ذلك من أقطار تأتي فيها من المآسي الإنسانية ما لا يطيقه ضمير الحر الأبيّ الكريم، هل تراه وقفًا يرسل النداء الحار من أعماق قلبه، ويصب صواعق غضبه على هؤلاء الأنانيين الغلاظ؟ لا. إنه يعمى عن ذلك كله، ولا يرى إلا محاسن سادته وأساتذته. وما تفيض به بلادهم من حياة الإباحة والمجون.. وإني أدعوك يا أخي إلى أن تشك في علم هؤلاء وفهمهم وإنسانيتهم، فإن الذي لا يفهم رسالته، لا يعول عليه، والذي يخذل الخير، لا خير فيه، والساكت عن الحق شيطان أخرس.
هذا النوع من الكتابة الذي لا ينقلك من محيط إلى محيط، بل يمعن بك في محيط الحضارة الآلية الصماء، لا ينبغي أن يكون نهجك في الكتابة، وهؤلاء الكتاب يجب أن تعرف منذ الآن زيفهم وحقيقة جهلهم؛ فلا تغرنك ألقابهم وشهرتهم.
وليكن همك الأول من قلمك أن تنقر به على قلب ليستيقظ، وتنفث منه نفسًا لتلهب وتنهض، وتعلم به باسم ربك الذي خلق ما لا تعلمه الكتابة العادية من ظواهر العلوم والفنون.. اذكر دائمًا أنك قائد، وأنك طبيب، واذكر دائمًا أن مهمتك الكبرى هي إحياء الضمائر وإثارة الهمم إلى المثل العليا.

  • عن كتاب: تذكرة الدعاة

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى