مقالاتمقالات الرأي

الرد على “العقيد” الذي وصف الرسول بأنه ساعي بريد

 

فرج كُندي

لم تكن المحاولات الأخيرة في البلاد الغربية تحت شعار حرية التعبير، ومن منطلقات علمانية تلغي الدين، وتحارب القداسة للكتب السماوية، وتنتقص من مقام النبوآت، وتتطاول على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وخاصة نبي الإسلام محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والتسليم؛
لم تكُن الهجمات الأولى ولن تكون الأخيرة؛ فهي حملة قديمة متجددة أصلها ثابت وأشكالها متعددة ومتنوعة، ومختلفة باختلاف الزمان والمكان. متأثرة بالتحولات في الظروف السياسية والاقتصادية التي تؤثر في العلاقة التاريخية بين المسلمين والغرب المسيحي الصلبي.
ومن المؤثرات التاريخية في هذه العلاقات القائمة على المؤثرين السابقين – السياسي والاقتصادي العامل الثقافي الذي ابتليت به الأمة الإسلامية بعد دخول الجيش الفرنسي المحتل لمصر (١٧٩٨- ١٨٠١) وظهور دعوة تقليد النظام الأوروبي للخروج من التخلف الذي كان سائدًا في البلاد العربية آنذاك، وانطلاق ما عرف بالبعثات التعليمية للدول الغربية في عهد محمد علي باشا بعد وصوله للحكم في مصر عام (١٨٠٥).

كان لهذه الصدمة الحضارية والانبهار بما شاهده المسلمين من فارق كبير بين الحضارة المادية لدى الغرب، وتخلف لدى العرب ردة فعل قوية. دفعت بتوجه أنظار العرب إلى الاقتباس من الحضارة الغربية، وترجم ذلك بإرسال البعثات التعليمية التي عاد بعض أفرادها متأثرين بالثقافة الغربية منبهرين بما شاهدوه من تقدم حضاري مادي كبير.
الغريب في الأمر أن الهدف الأساسي والأصيل لهذه البعثات هو تعلم العلوم التطبيقية وأساليب الزراعة والصناعة الحديثة، ولكن جاء الكثير منهم بأساليب وأنماط الحياة الغربية وبنظرة الغرب العلمانية للحياة والدين والكون.
وكان نتيجة ذلك أن تأثر البعض بهذه الأفكار وحاول نشرها في بلاد المسلمين من خلال الدعوة لأفكار العلمانية، خاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وسقوط الخلافة الإسلامية سنة ١٩٢٤.
تمثل ظهور هذه الموجة من خلال كتابين ظهرا عقب هذا التاريخ هما كتاب الدكتور طه حسين ( ١٨٨٩- ١٩٧٣ ) في الشعر الجاهلي؛ والكتاب الثاني وهو الأخطر هو كتاب الشيخ علي عبد الرازق ( ١٨٨٨- ١٩٦٦) الإسلام وأصول الحكم.
وكان لهذا الكتاب ردة فعل عنيفة وقوية من قبل المجتمع المسلم في كافة الأوساط العلمية عامة ومؤسسة الأزهر الشريف خاصة. الذي أصدر قراره التاريخي عقب نشر الشيخ “علي عبد الرازق” كتابه الشهير سنة ١٩٢٥ بإخراج الشيخ “علي عبد الرازق” من زمرة علماء الأزهر بناء على المادة ١٠١من القانون رقم ١ لسنة ١٩١١، وقد صدر الحكم في ١٢ أغسطس ١٩٢٥. بعد اطّلاع اللجنة وتقريرها بأنه يتضمن – أي الكتاب – أمورًا مخالفة للدين ولنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع الأمة، وبعد سماعها ما جاء في مذكرة دفاع الشيخ علي عبد الرازق عن التهم الموجه إليه قوله (إنما كانت ولاية محمد ﷺ على المؤمنين ولاية الرسالة غير مشوبة بشيء من الحكم)!!!.

وقد تجرأ العقيد القذافي الذي حكم ليبيا (١٩٦٩ – ٢٠١١) وذهب إلى أبعد مما قال به الشيخ علي عبد الرازق متحاملا على مقامه ﷺ في أحد اجتماعاته المنقولة على الهواء مع أتباعه وصفا الرسول ﷺ بأنه (مجرد ساعي بريد)!!!.

إن مجرد التفكير في وصف مقام النبي ﷺ بهذا الوصف غير اللائق وغير المؤدب؛ لا يمكن أن يخطر على بال شخص يؤمن بأن النبي ﷺ مرسل من الله تعالى، وأن الله أمره أن يحبه ويسلم لحكمه، ويمتثل لأمره ويعزره ويوقره، ويكثر من الصلاة والسلام عليه ﷺ!!!
لقد تكرر تطاول العقيد القذافي على مقام النبوة بأسلوبه المتهكم والمنتقص من مقام النبي ﷺ الذي تعوّد عليه في أكثر من مرة وأكثر من مناسبة كان يتعمد فيها عدم ذكره بصفة النبوة أو الرسالة؛ مع ترفع عن الصلاة والسلام عليه ﷺ مصادماً قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
إنّ القذافي في كلامه هذا يزعم أن مهمة الرسول ﷺ كانت بلاغا للبشرية مجرداً من الحكم والتنفيذ، وهذا فيه إقصاء لتطبيق الشريعة في تعمد انتقاص لصاحب الرسالة ﷺ، وذلك بسب أنه يعتبر نفسه “رسول الإنسانية ” وأن حل مشاكل البشرية في نظريته، العالمية الثالثة، المتمثل فيما سطره في (كتابه الأخضر) بفصوله الثلاثة السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
والقذافي بهذا يريد القول إن الرسول لم يُكلف بشيء غير الإبلاغ، وليس له أن يأخذ الناس بما جاءهم به ولا أن يحملهم عليه، وهذا ما قال به الشيخ علي عبد الرازق في كتابه. “الإسلام وأصول الحكم” مع الفارق بين موقف الرجلين؛ بين صاحب رأي خاطئ وبين موقف عدائي ممنهج.
وآيات القرآن الكريم القطعية الدلالة التي تنص على تجاوز البلاغ إلى التطبيق من الأحكام والتنفيذ الذي أنيط بالنبي ﷺ التي تلجم كل من يشطح به عقله أو ينجر إلى هواه، أو يلعب به جنون العظمة، أو شيطان الغرور أو يغلبه حقده على مقام الرسول الأعظم ما فيه الكفاية وكفا بها رادع.

قال تعالى:

﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ النساء ١٠٥

قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره: (إنا أنزلنا إليك) يا محمد (الكتاب) يعني القرآن، (لتحكم بين الناس) لتقضي بين الناس فتفصل بينهم (بما أراك الله) يعني بما أنزل الله إليك من كتابه.

وقال تعالي:

﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ﴾ المائدة ٤٩

قال ابن جرير الطبري رحمه الله يعني بقوله تعالى (بما أنزل الله) بحكم الله الذي أنزله إليك في كتابه.

وقال تعالى:
(فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ۖ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ۖ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ۖ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) الشورى ١٥
قال الإمام الطبري رحمه الله وقوله تعالى: (وأمرت لأعدل بينكم) يقول تعالى ذكره: وقل لهم يا محمد: وأمرني ربي أن أعدل بينكم، فأسير فيكم جميعا بالحق الذي أمرني به وبعثني بالدعاء إليه.
وقال قتادة: (وأمرت لأعدل بينكم) قال: أمر نبي الله ﷺ أن يعدل؛ فعدل حتى مات صلوات الله وسلامه عليه.
وقال تعالى:
﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾. التوبة ٢٩

قال: الإمام الطبري: يقول الله تعالى للمؤمنين به من أصحاب رسول الله ﷺ (قاتلوا) أيها المؤمنون، القوم (الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر٩ يقول لا يصدقون بجنة ونار (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق) يقول: ولا يطيعون الله طاعة الحق: يعني أنهم لا يطيعون طاعة الإسلام.
ومن لا يطع طاعة الإسلام، ويدين بما جاء في الآيات القرآنية التي تبين وجوب طاعة الرسول والعمل بما جاء به وأن الرسول صاحب الرسالة هو الرسول الذي يجب طاعته والائتمار بأمره، ومن مقتضى الإيمان به احترامه وتقديره وتعزيره ومن خالف ذلك فهو بعيد عن الإيمان به وإن ادّعى ذلك.

وفي البخاري جاء فصل الخطاب على لسان خير البرية، الذي وضح مهمته وما أمره الله به ليقطع القول عن كل معاند أثيم في حق خير المرسلين ﷺ: عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله).
وبعد هذا هل يجوز لأحد أن يقول: (محمد مجرد ساعي بريد يحمل رسالة فقط، وأنه حامل رسالة الله إلى الناس وليس عليه أن يأخذ الناس بما جاءهم به ولا يجمعهم عليه)!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى