عامقضايامقالاتمقالات الرأي

الشورى والعدل والديمقراطية

د. عبد الرزاق مقري
كم هي كثيرة الجرائم التي اقترفت باسم الحرية والعدالة والديمقراطية؛ دول اشتراكية شرقية سمت نفسها “ديمقراطية شعبية”، فتحولت إلى أنظمة بوليسية قمعية، اضطهدت شعوبًا بأكملها وقتلت الآلاف من الناس في المحتشدات، ودول أخرى غربية سمت نفسها “ديمقراطية ليبرالية”، استعمرت بلدانا واسعة أبادت شعوبها ونهبت خيراتها، ثم باسم الديمقراطية الليبرالية ركزت الثروة في أياد قليلة من أثرياء العالم تسبب جشعهم في انتشار الفقر والحروب والأوبئة والاعتداء على البيئة في هذا الكون.
كم من جريمة ارتكبت باسمك أيتها الحرية.. كلمة قالتها “مدام رولان” قبل أن تتدلى على حبل المشنقة التي نصبتها لها الثورة الفرنسية أثناء عشريتها الدموية.
وكم هم كثر أتباع هذا المنهج الديمقراطي اليساري، أو الديمقراطي الليبرالي في بلادنا، الذين يسمّون أنفسهم ديمقراطيين، ولكن كديمقراطية أثينا الانتقائية، التي لا تروق لهم إلا إذا حملتهم إلى السلطة، ويكون العسكر عندهم جيدين، إذا أوصلوهم إلى الحكم على ظهر الدبابة.
إن الإشكالية السياسية المهمة التي عالجها القرآن الكريم لمنع الاستبداد أن تكون الشورى صفةً لازمة في نفس الإنسان، كخلق وسجية قبل أن تكون أدوات وممارسة، أن تكون حالة اجتماعية يلتزم بها الناس في عائلاتهم وفي أي منتظم بشري تتشابك فيه مصالحهم. قال سبحانه وتعالى واصفًا المؤمنين: {وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَیۡنَهُمۡ} الشورى 38. أي إن تلك هي سجيتهم التي يُعرفون بها، وإن لم يكونوا كذلك ما هم بمؤمنين حقا. لا يوجد ذكر للشورى في القرآن الكريم إلا هذه الآية وآية أخرى تُبنى عليها، وهي قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} آل عمران 159، حيث يأمر الله تعالى نبيه وكل المؤمنين المخاطبين بالقرآن أن يتشاوروا، فإن كانت صفتهم وسجيتهم الشورى سهل عليهم الالتزام بأمر الله، ولا عليهم أن يستعملوا بعد ذلك ما يشاؤون من الآليات والأدوات للتداول والتشاور، مما تكتشفه عقولهم في كل عصر ومصر.
على هذا الأساس، يتمسك المسلم بالمنهج الديمقراطي قناعة عميقة داخله، إذ هي وسيلته التي تظهر بها أخلاقه الشورية ويطبق بها أمر الله في وجوب الحوار والتداول والتشاور.
فما أجلّ منفعة السياسة حينما تكون موجهة بالقرآن الكريم.
إن العلاقة بين القرآن والسياسة تجعل الديمقراطية، كوسيلة للتداول والقرار، تلقائية تُبنى على مبدأ الشورى والبحث الصادق عن الحقيقة، فلا تكون انتقائية ولا صورية. ولهذا كانت عبارة الشوراقراطية التي أبدعها الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله.
إن من نتائج الديمقراطية الانتقائية والصورية غياب العدل وفشو الظلم. وهذا الذي تميزت به الديمقراطية الغربية التي تسير نحو أفولها بعد أن استعمرت الشعوب سابقًا، واستغلت خيرات الضعفاء لا حقا، وحكمت بازدواجية المعايير بدعم الدكتاتوريات خارج بلادها، وإطلاق أيدي الصهيونية لقتل أطفال فلسطين، وهي الآن تأكل أبناءها بعد إذ صار العوز والظلم في ديارها، فترى شعوبهم اليوم تثور بسترات صفراء وبرتقالية وحمراء وزرقاء وبشتى الألوان.
إن العدل في القرآن قيمة مطلقة لصالح القوي والضعيف والفقير والغني، ولو على النفس والأقارب.
وما أعظم هذه الآية إذ توضح ذلك:
﴿۞ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّ ٰمِینَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَاۤءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَ ٰلِدَیۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِینَۚ إِن یَكُنۡ غَنِیًّا أَوۡ فَقِیرࣰا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُوا۟ ٱلۡهَوَىٰۤ أَن تَعۡدِلُوا۟ۚ وَإِن تَلۡوُۥۤا۟ أَوۡ تُعۡرِضُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣰا﴾ [النساء ١٣٥] كل الدول لها وزارات تسمى وزارة العدل، ومع ما للسلطة القضائية من أهمية حين تكون عادلة مستقلة، فإن العدل أشمل من وزير ووزارة في التوجيهات القرآنية: العدل منهج حياة، العدل سلوك يومي، العدل يشمل كل مناحي الحياة، العدل مع النفس وعلاقتها بالغير، العدل في البيت وبين الأزواج والأولاد والأقارب، العدل مع الجيران وفي الحي وفي العمل، العدل في التجارة والمال والأعمال، العدل في الحكم ومؤسسات الدولة، العدل في التعامل مع الطبيعة والمحيط، مع الحيوانات والشجر والحجر والبحار والفضاء والمحيطات، العدل بين الشعوب والأمم والدول، العدل في الرضا والغضب، العدل في الأحكام والقرارات في أي مستوى من المستويات، بل العدل حتى مع الخصوم والشانئين: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّ ٰمِینَ لِلَّهِ شُهَدَاۤءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰۤ أَلَّا تَعۡدِلُوا۟ۚ ٱعۡدِلُوا۟ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِیرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ﴾ [المائدة ٨] وعكس العدل الظلم بكل أنواعه، والظلم في القرآن الكريم هو سبب ضياع الأفراد، إذ قال تعالى: ﴿ إِنَّهُۥ لَا یُفۡلِحُ ٱلظَّـٰلِمُونَ﴾ [الأنعام ٢١] وهو علة خراب الأمم: ﴿وَتِلۡكَ ٱلۡقُرَىٰۤ أَهۡلَكۡنَـٰهُمۡ لَمَّا ظَلَمُوا۟ وَجَعَلۡنَا لِمَهۡلِكِهِم مَّوۡعِدࣰا﴾ [الكهف ٥٩] وعلى هذا النهج قرر عالم الاجتماع الفذ، عبد الرحمن بن خلدون؛ (العدل أساس الملك، والظلم مؤذن بخراب العمران) وقبله أقره ابن تيمية فقال: (إن الناس لم يتنازعوا في عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة)، ويُروى: ((إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة)).
فيا لها من سياسة راشدة تلك السياسة التي تحمل هذه المعاني القرآنية..
* عن كتاب: الاستنهاض الحضاري وتحدي العبور.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى