اجتماعيةمقالاتمقالات تربوية

الصيام والمعاني المفقودة

 

فرض الله علينا الصيام لنتدرب على مقاومة شهواتنا وغرائزنا وينبغي لمن وعى هذا المعنى أن يقتصد في طعامه وشرابه في رمضان (شترستوك)

أتوقف كثيرا مع حديث سيدنا طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: أن رجلين قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إسلامهما جميعا، وكان أحدهما أشد اجتهادا من صاحبه، فغزا المجتهد منهما، فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة، ثم توفي، قال طلحة: فرأيت فيما يرى النائم كأني عند باب الجنة إذا أنا بهما وقد خرج خارج من الجنة، فأذن للذي توفي الآخر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجعا إلي فقالا لي: ارجع، فإنه لم يأن لك بعد. فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من أي ذلك تعجبون؟ قالوا: يا رسول الله، هذا كان أشد اجتهادا، ثم استشهد في سبيل الله، ودخل هذا الجنة قبله. فقال: أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا: بلى. وأدرك رمضان فصامه؟ قالوا: بلى. وصلى كذا وكذا سجدة في السنة؟ قالوا: بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فلما بينهما أبعد ما بين السماء والأرض”، أخرجه أحمد وابن ماجة وصححه الألباني.

وأتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: “فلما بينهما أبعد ما بين السماء والأرض”، وذلك بسبب صيامه رمضان سنة بعد استشهاد أخيه الذي يفترض أنه سبقه بالاجتهاد في العبادة والشهادة في سبيل الله، وأقول في نفسي هل يمكن أن يبلغ هذه المنزلة لصيامه وقيامه فقط، أم للمعاني التي يغرسها الصيام والقيام في قلبه وروحه، تلك المعاني المفقودة والغائبة في صيام كثير منا اليوم، بكل أسف، وهو ما حذرنا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- من الوقوع فيه بأن يكون صومنا شكلا وصورة بلا معنى أو روح، ففي حديث أبي هريرة عند ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر”.

ومن معاني الصيام التي فقدناها -إلا قليلا- وتجب استعادتها ما يلي:

التزكية والتطهير

كان بعض الصحابة إذا دخل شهر رمضان يقول مرحبا بمُطَهِّرنا، فهدف الصيام -كما هدف سائر العبادات- التزكية والتطهير للقلب والنفس، والفائز بحق في رمضان هو من تغير قلبه فيه، ووفقه الله لمحو الران الذي كساه على مدار العام بسبب الذنوب والمعاصي، وليس الفائز من يعدد الختمات والصلوات والصدقات، لكن قلبه -كما هو- يمتلئ قسوة وغلا وحقدا وحسدا على الناس، إن الصلاة والصيام والقيام وتلاوة القرآن في رمضان لا بد أن تثمر حياة لقلوبنا، فمن حضر قلبه في رمضان فنسيم الريح يذكره، ومن غاب قلبه فـ100 ألف نبي لا يوصلون التذكرة إليه. الموفق في تغيير قلبه في رمضان هو الفائز، لأن القلب هو النافع الوحيد يوم القيامة قال تعالى: {يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء: 88-89]، وقد توعد الله أصحاب القلوب القاسية فقال: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين} [الزمر: 22]، وصاحب القلب القاسي أو الميت لن ينتفع بالعبادة في رمضان إلا إذا أزال الغشاوة والقسوة من على قلبه، وشهر رمضان أعظم مصحة لعلاج أمراض القلوب وشفاء الأرواح، ومن لم يداو قلبه في رمضان فمتى؟

كنت أرمق النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسأل أهل بيته في الصباح، أثمَّ ما يفطر به؟ فيقال: لا! فينوي الصيام، ويستقبل يومه كأن شيئا لم يحدث، ويذهب فيلقى الوفود ببشاشة، ويبت في القضايا، وليس في صفاء نفسه غيمة واحدة، وينتظر بثقة تامة رزق ربه دونما ريبة، ولسان حاله: {فإن مع العسر يسرا* إن مع العسر يسرا} [الشرح: 5-6]

سيطرة الجسد على الروح

فرض الله علينا الصيام لنتدرب على مقاومة شهواتنا وغرائزنا وينبغي لمن وعى هذا المعنى أن يقتصد في طعامه وشرابه في رمضان، وأن يكون أقل الشهور إنفاقا على الطعام فيه، والواقع أننا نصوم طويلا ونأكل كثيرا، فيحضر الطعام ويغيب الصيام، ونصبح أمام حالة معكوسة للصيام وهي سيطرة الجسد على الروح بدلا من سيطرة الروح على الجسد، ونحن بهذا المسلك لا نبتعد فقط عن مقصد الصيام ومغزاه بل نقع في آفة الإسراف وتجاوز الحد المقبول للإنفاق على الطعام والشراب، خاصة ونحن نعيش أزمة اقتصادية وزيادة متسارعة في الأسعار.

يقول الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- منتقدا غياب هذا المعنى في صيام المسلمين: “الصيام: إنه يرد النفس إلى القليل الكافي، ويصدها عن الكثير المؤذي! ذاك يوم نصوم حقا، ولا يكون الامتناع المؤقت وسيلة إلى التهام مقادير أكبر، كما يفعل سواد الناس!! لعل أهم ثمرات الصوم إيتاء القدرة على الحياة مع الحرمان في صورة ما، كنت أرمق النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسأل أهل بيته في الصباح، أثمَّ ما يفطر به؟ فيقال: لا! فينوي الصيام، ويستقبل يومه كأن شيئا لم يحدث، ويذهب فيلقى الوفود ببشاشة، ويبت في القضايا، وليس في صفاء نفسه غيمة واحدة، وينتظر بثقة تامة رزق ربه دونما ريبة، ولسان حاله: {فإن مع العسر يسرا* إن مع العسر يسرا} [الشرح: 5-6]، إنها لعظمة نفسية جديرة بالإكبار أن يواجه المرء البأساء والضراء مكتمل الرشد، باسم الثغر. والأفراد والجماعات تقدر على ذلك لو شاءت، وأعتقد أن من أسباب غَلب العرب في الفتوح الأولى قلة الشهوات التي يخضعون لها، أو قلة العادات التي تعجز عن العمل إن لم تتوافر، يضع الواحد منهم تمرات في جيبه، وينطلق إلى الميدان، أما جنود فارس والروم، فإن العربات المشحونة بالأطعمة كانت وراءهم، وإلا توقفوا”.

الخشية والمراقبة

من مقاصد ومعاني الصيام الكبرى تعلم خشية الله ومراقبته في السر والعلن، لأنه العبادة الوحيدة في أركان الإسلام التي نسبها الله لنفسه فقال في الحديث القدسي: “كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به”؛ ذلك أن كل العبادات علنية إلا الصوم فهو بينك وبين ربك لتتدرب على إصلاح سرك وهذا جوهر التقوى الذي حدده القرآن مقصدا للصيام في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة: 183] فالصائم المستبد، القاتل شعبه، والمهجر له، والمعتقِل شبابه، والصائم الآكل لحقوق إخوته والناس، والصائم المضيع لحقوق العباد، والصائم المعتدي على المال العام، كل هؤلاء لا حظ لهم من صيامهم إلا الجوع والعطش، ولو أحسنوا الصوم لأحسنوا مراقبة لله والحياء منه في العلن، بعدم التعدي على الخلق أو ظلمهم كما صاموا لله وراقبوه في السر.

يعلمنا الصيام الانضباط والمبدئية فنحن ندقق قبل الفطر وعند الإمساك في الدقيقة وأقل منها حتى لا نعرض صيامنا للفساد أو البطلان

جمعية القلب على العبادة

من يتأمل أحوال أئمة السلف في رمضان يلحظ بوضوح أنهم كانوا يجمعون قلوبهم على العبادة في رمضان خاصة تلاوة القرآن، كسفيان الثوري الذي كان إذا دخل رمضان ترك جميع العبادات وأقبل على تلاوة القرآن، والإمام مالك الذي كان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ويتفرغ للقراءة من المصحف، ومن المعاني التي فقدناها في رمضان جمعية القلب على العبادة، لكثرة الصوارف والشواغل التي تأخذ القلب بعيدا عن الصفاء الروحي والسلام النفسي الذي يتحقق بمجاهدة النفس في تجنبها والاقتصاد في التعامل معها.

الانضباط والمبدئية

يعلمنا الصيام الانضباط والمبدئية فنحن ندقق قبل الفطر وعند الإمساك في الدقيقة وأقل منها حتى لا نعرض صيامنا للفساد أو البطلان، كما نتحرى الهلال ونستخدم الحسابات الفلكية لمعرفة بداية رمضان ونهايته حتى نلتزم التزاما تاما بالتكليف الإلهي، وهو صيام الشهر كاملا من دون زيادة أو نقصان، وهذا يعلمنا المبدئية في حياتنا كلها، وإدراك قيمة الزمن واستثماره في ما يرضي الله ويعمر الأرض ويخدم الإنسانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى