اجتماعيةمقالاتمقالات تربويةمقالات فكرية

العبادات المطْلقة والعبادات المقيَّدة، وليس المطلَق كالمقيَّد

العبادات المطْلقة والعبادات المقيَّدة، وليس المطلَق كالمقيَّد

د. أحمد الريسوني

يُـقصد بالعبادات: التكاليفُ والأعمال المشروعة بالقصد الأول لأجل التعبد لله والتقربِ إليه ونيل ثوابه ورضاه.

والفقهاء يقسمون أبواب فقه الشريعة إلى: عبادات، ومعاملات. وقد يفصلون في المعاملات: فيقسمونها إلى معاملات وعادات، أو إلى معاملات ومناكحات وعقوبات وولايات.. إلى غير ذلك من التقسيمات المنهجية..

وفي جميع الحالات نجد قسم العبادات ثابتا يتصدر سائر الأقسام.

ومصطلح “العبادات” إذا أطلقه الفقهاء، فالمقصود به عندهم خمسة أبواب هي: الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج.. مع ما يتبع كل واحد من هذه الأركان، من مقدمات ومكمِّلات.. فهذا هو الاصطلاح الفقهي..

ولكن العبادات الشرعية، أو المشروعة، لا تنحصر في هذه الأبواب الفقهية، وفي هذا الصنف من العبادات، بل تشمل صنفا آخر من العبادات؛ أبرزها خمسة هي: قراءة القرآن، والذكر، والدعاء، والدعوة إلى الله، والتبرعات المالية..

فنحن إذاً أمام صنفين من العبادات.. فما الفرق بينهما؟ وماذا يترتب على هذا الفرق؟

عبادات مقيَّدة، وعبادات مطْـلَـقة..

فالعبادات في الصنف الأول نزلت – أولَ ما نزلت – مجملة، حتى إذا تقررت من حيث المبدأ، جاء البيان والتفصيل في مواقيتها ومقاديرها وشروطها وكيفياتها وبعض وسائلها.. وأدَلُّ دليل على ذلك، هو أن أحكامها التفصيلية تستغرق الشطر الأعظم من كتب الحديث وكتب الفقه. وفي الغالب الأعم: جاء إجمالها في القرآن، ثم جاءت تفاصيلها في السنة، أو حسب عبارة للشاطبي: “تأصلتْ في الكتاب، وتفصلتْ في السنة“؛ كقوله تعالى {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ}، مع قوله صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي). والأمثلة في هذا كثيرة معروفة..

وأما عبادات الصنف الثاني، فنزلت أصولا عامة مطلقة، وبقيت على عمومها وإطلاقها فيما يتعلق بتفاصيلها وهيئاتها: فلا مواقيتَ محددة، ولا مقاديرَ مقدَّرة، ولا شروطَ مقدمة، ولا كيفيات مضبوطة..

وهذا يدل على أن الشارع قصد تضييق الاجتهاد، وتقييدَ التصرف البشري في أداء الصنف الأول من العبادات، وأنه أراد – بالمقابل – فسْحَ المجال للاجتهاد والانطلاق في ممارسة الصنف الثاني.

فالعبادات المفصَّلة محكومة ومقيَّدة بما نص عليه الشرع من تفاصيلها الدقيقة؛ ما عُقل منه وما لم يُعقل. ومجال الاجتهاد فيها مقلص، يكاد يقتصر على المستجدات والنوازل الطارئة.

قال القاضي أبو بكر بن العربي: “قال علماؤنا (يقصد المالكية): … ونطاق القياس في العبادات ضيق، وإنما ميدانُـه المعاملات والمناكحات، وسائـرُ أحكام الشرعيات. والعباداتُ موقوفة على النص” (المحصول ص: 95). ومعلوم أن القياس نفسه متولد من النص ومتوقف عليه..

وأما العبادات المجمَلة المطلقة (كقراءة القرآن وحفظه، والذكر والدعاء، والدعوة إلى الله، والتبرعات المالية)، فضوابط إقامتها وتفاصيلُ ممارستها قليلة ومرنة، ولا يـحُـدُّها – في الغالب- سوى القواعد والمقاصد والآداب العامة للإسلام. وهذا من شأنه أن يوسع مسالكها، وينوع وسائل تحقيقها، وييسر فرصَ ممارستها.

ومن الأخطاء المنهجية الشائعة لدى كثير من المتفقهة والواعظين وأتباعهم: تعاملُهم مع العبادات المطلقة، كتعاملهم مع العبادات المفصَّلة المضبوطة في الشرع، على اعتبار أنها كلها عبادات، والعبادات سواء.

فلذلك تجدهم يُغرقون الناس بأحكام الحظر والتبديع والتجريح.. وهو ما سأوضحه بأدلته وأمثلته، في حلقات قادمة، بعون الله تعالى ومشيئته.

وأول ذلك: مسألة القراءة الجماعية للقرآن الكريم..

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى