مقالاتمقالات تربوية

العشر الأواخر.. شفاء للأرواح.

د.خالد حنفي

مع غروب شمس أمس الثلاثاء الموافق للعشرين من شهر رمضان المبارك لهذا العام 1444، بدأت الليلة الأولى من ليالي العشر الأواخر من رمضان، والتي “كان النبي (صلى الله عليه وسلم) إذا دخلت شد مئزره، وأيقظ أهله، وأحيا ليله” متفق عليه. وشد المئزر كناية عن مضاعفة الجد والاجتهاد في العبادة، واعتزال النساء، وإيقاظ الأهل يعني أن يشرك الرجل زوجه وأولاده في عبادة العشر الأواخر من رمضان، وإحياء الليل يعني إحياء غالبه وتقليل ساعات النوم فيه مقارنة بالعشرين الأول من رمضان، فالعشر الأواخر شفاء لأرواحنا، وتطهير لقلوبنا، ورحمة من ربنا، ومن لم تتزكَ نفسه ويحيا قلبه ويذرف دمعه في تلك العشر فمتى يخشع ويدمع؟!

سر الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان

اجتهاد النبي (صلى الله عليه وسلم) واعتكافه في العشر الأواخر من رمضان يرجع لسببين: أولاهما وجود ليلة القدر فيها، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: “التمسوها في العشر الأواخر من رمضان” (رواه البخاري). والمتأمل في الأحاديث الواردة في فضل شهر رمضان يدرك أن ليلة القدر تعدل صيام رمضان وقيامه، حيث قال (صلى الله عليه وسلم): “من قام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه” (رواه البخاري)، وقال: “من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” (رواه البخاري). والسبب الثاني أنها ختام الشهر، والأعمال بالخواتيم كما في الحديث، وكما قال ابن تيمية: العبرة بكمال النهايات لا بنقصان البدايات، فمن قصر أو فرط أو كسل أو غفل في العشرين الأول من رمضان أمامه الفرصة للاستدراك والفوز والتنافس والمسارعة إلى الخيرات في عشر الرحمات.

أهم الأعمال في العشر الأواخر من رمضان

العشر الأواخر من رمضان أوقات فاضلة ونفحات ربانية مباركة، والواجب على المسلم استثمارها واغتنام كل لحظة ونفس فيها بالطاعات والقربات، فقد بلغ من اغتنام الصحابة والسلف لها أنهم كانوا يفطرون على لقيمات ويؤخرون الفطور الكامل للسحور حتى لا يضيع الوقت في الطعام، فعن زر بن حبيش (رضي الله عنه) قال: “في ليلة سبع وعشرين من استطاع منكم أن يؤخر فطره فليفعل وليفطر على ضياح لبن”. ومن أهم أعمال العشر الأواخر من رمضان ما يلي:

ترك الخصومة والتلاحي

إن أول وأهم عمل في العشر الأواخر من رمضان هو ترك الخصومة والتباغض والتشاحن وتصفية القلوب من الغل والحقد والحسد تجاه المسلمين، فقد كانت الخصومة والملاحاة سببا في رفع تعيين ليلة القدر، وقد تكون سببا من الحرمان من العفو والمغفرة فيها، ومن أراد العفو من الله فليبادر في العشر الأواخر بالعفو عن الناس. عن عبادة بن الصامت (رضي الله عنه) قال: خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فقال: “خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان، فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم” (رواه البخاري).

الاعتكاف

الاعتكاف هو لزوم المسجد بنية الاعتكاف، ولا يكون إلا في المساجد قال تعالى: ﴿ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد﴾ [البقرة: 187]، وهو سنة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فقد كان “يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما” (رواه البخاري). والحكمة من الاعتكاف اعتزال الدنيا والناس وهو بمثابة حمية روحية سنوية، يقول ابن القيم -في بيان حكمة الاعتكاف- إن “‌عكوف ‌القلب على الله تعالى وجمعيته عليه، والخلوة به والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده سبحانه، بحيث يصير ذكره وحبه والإقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته فيستولي عليه بدلها ويصير الهم كله به والخطرات كلها بذكره والتفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسه بالله بدلا عن أنسه بالخلق فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه”.

وما أحوجنا في هذا العالم المادي إلى الاعتكاف والاعتزال والخلوة مع الله والأنس به بعد أن أجلبت علينا المادية بخيلها ورجلها، والاعتكاف بحق هو الذي يتجنب المعتكف فيه كل مشتتات القلب والمشوشات عليه من مخالطة لكل ما يذكره بالدنيا، هو الذي ينقطع فيه عن الخلق ويتصل بالخالق، هو الذي تستثمر فيه الأوقات والأنفاس ولا تضيع في التصفح الشبكي أو التسامر مع المعتكفين، فرب معتكف ليس له من اعتكافه إلا الحبس والبقاء في المسجد، ومن عجيب ما نقل عن الإمام أحمد أنه قال: “إن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس حتى ولا لتعليم علم وإقراء قرآن، بل الأفضل له الانفراد بنفسه والتخلي بمناجاة ربه وذكره ودعائه”.

ويبدأ الاعتكاف من غروب شمس ليلة 21 رمضان وينتهي بغروب شمس الليلة الأخيرة من رمضان، والمرأة فيه مثل الرجل بشرط إذن زوجها، ووجود مكان في المسجد خاص بالنساء، وعدم تعطيل واجباتها الأسرية والعملية، ولا يصح اعتكافها في بيتها، فعن عائشة رضي الله عنها أن “النبي (صلى الله عليه وسلم) اعتكف معه بعض نسائه، وهي مستحاضة ترى الدم، فربما وضعت الطست تحتها من الدم…” (رواه البخاري)، ويخرج المعتكف من المسجد للضرورة ويجدد نيته كلما عاد للمسجد، ويجوز لكل مسلم أن ينوي الاعتكاف مدة بقائه في المسجد.

تحري ليلة القدر

إنما سن الاعتكاف والاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان لوجود ليلة القدر فيها، لهذا من أهم الأعمال في العشر الأواخر تحري وتلمس ليلة القدر، وفضلها كبير وعظيم كما في سورة القدر، فهي خير من ألف شهر، أي أن العبادة فيها تعدل أو تزيد على نيف و80 سنة، وقيل إن الألف شهر للتكثير، والعدد لا مفهوم له فلا حد لثواب العبادة فيها ولهذا قال الله تعالى: “خير من ألف شهر”، ولم يقل: كألف شهر، والملائكة تتنزل فيها بإمامة سيدنا جبريل عليه السلام “والروح فيها”، وليس فيها إلا السلام حتى مطلع الفجر، ولهذا كان كثير من الصحابة وأئمة السلف يغتسلون ويتطيبون ويلسبون أجمل الثياب في ليالي العشر الأواخر من رمضان أو في الليالي الوترية التي يظنون أن ليلة القدر فيها، وكان لتميم الداري حلة اشتراها بألف درهم وكان يلبسها في الليلة التي يترجى فيها ليلة القدر، وكان يتأملون بطهارة وجمال الظاهر تطهير وتجميل الباطن.

كما أثبتت السنة فضلها في حديث أبي هريرة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: “فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم” (رواه النسائي وأحمد وصححه الأرناؤوط).

لم سميت بليلة القدر؟

إن معرفة أقوال العلماء في سبب تسمية ليلة القدر بهذا الاسم تكشف لنا عن عظمتها وخطر الغفلة عنها وأهمية وضرورة الاجتهاد فيها، فقال بعضهم: “سميت بليلة القدر، لأن الله يقدر فيها أحداث العام من آجال وأرزاق قال تعالى: ﴿فيها بفرق ‌كل أمر حكيم﴾ [الدخان: 4]”، وقيل: “لأن من ليس له قدر يصير بالعبادة فيها صاحب قدر”، وقيل: “القدر من التضييق قال تعالى: ﴿وأما إذا ما ابتلاه ‌فقدر ‌عليه ‌رزقه﴾ [الفجر: 16]، أي أن الأرض على سعتها تضيق بالملائكة في تلك الليلة لكثرتهم”، وقيل: “لقدرها ومنزلتها عند الله”.

أي ليلة هي؟

وردت أحاديث كثيرة بروايات صحيحة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) بالتماس ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، وفي الليالي الوترية منه، وفي آخر ليلة منه، وقد رجح كثير من العلماء أنها ليلة السابع والعشرين من رمضان ومما استدلوا به: تحري عدد من الصحابة لها وعدم شكهم أنها ليلة السابع والعشرين كسيدنا أبي بن كعب (رضي الله عنه) الذي كان يحلف ولا يستثني -أي لا يقول إن شاء الله- وسيدنا زر بن حبيش، وعبدة بن أبي لبابة، وهو منقول كذلك عن عمر بن الخطاب وحذيفة (رضي الله عنهما)، واستدلوا بحديث عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما): أن رجلا أتى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال : يا نبي الله إني شيخ كبير عليل يشق علي القيام، فأمرني بليلة لعل الله يوفقني فيها لليلة القدر قال : “عليك بالسابعة” أخرجه أحمد وقال الأرناؤوط : إسناده صحيح على شرط (رواه البخاري)، واستدلوا أيضا بحديث عبدالله بن عمر أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: “من كان متحريها فليتحرها ليلة سبع وعشرين” (رواه أحمد بسند صحيح).

واستدلوا أيضا بحديث أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: تذاكرنا ليلة القدر عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فقال: “أيكم يذكر حين طلع القمر وهو مثل شق جفنة” (رواه مسلم)، وشق جفنة: أي: نصف قصعة، قال أبو الحسين الفارسي: أي: ليلة سبع وعشرين، فإن القمر يطلع فيها بتلك الصفة.

ورغم  ظهور كل تلك الأدلة إلا أنه ليس هناك قطع بتعيين ليلة القدر، والقطع بأنها ليلة السابع والعشرين مضاد للحكمة من إخفائها وهو استمرار العبادة والتلذذ بها طوال رمضان وطوال العشر الأواخر منه، وقد اعتاد المسلمون والمساجد الكبرى حول العالم على رأسها الحرمين الشريفين على الاحتفاء والاحتفال بليلة السابع والعشرين من رمضان وختم القرآن وإطالة الدعاء فيها بالنظر إلى تلك الأدلة، وهو أمر حسن ومسلك محمود لتشجيع الناس على العبادة، وإحياء ليلة واحدة بالعبادة خير من الغفلة عن سائر الليالي بحق شرائح كبيرة من المسلمين، لكن يجب التنبيه على عدم القطع بأن ليلة السابع والعشرين هي ليلة القدر، فإن الناس يغفلون سائر العشر ويتولد لديهم شعور أن الشهر قد انتهى بختام القرآن فيها فتزاد الغفلة ويحرمون خواتيم الشهر والليلة الوترية الأخيرة منه والذي ثبت في فضلها حديث صحيح وهو قوله (صلى الله عليه وسلم): “التمسوا ليلة القدر آخر ليلة من رمضان”.

والذي يظهر لي والله أعلم أن الروايات الصحيحة لتحري ليلة القدر في الليالي الوترية أو الزوجية لا تعارض بينها، وأن القصد منها تحفيز المسلم وشحذ همته للعبادة كلما غفل أو كسل، والمسلم بحق إذا تذوق حلاوة المناجاة وروح العبادة في رمضان لا ينقطع عنها على الأقل في العشر كلها.

العبادة الجامعة

سألت السيدة عائشة (رضي الله عنها) رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “يا رسول الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو” (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه بسند صحيح). فهي رضي الله عنها تعلم أن أفضل عبادة في العشر الأواخر هي الدعاء لكنها تسأل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن أفضل الدعاء، ولهذا كان الإمام المحدث الثقة الفقيه سفيان الثوري يقول: “الدعاء في تلك الليلة أحب إليّ من الصلاة”. والعبادة الجامعة في العشر الأواخر من رمضان هي قيام الليل والتهجد، لأنك بالقيام تحصل أجر قيام ليلة القدر، وبالدعاء تتحقق بالنصيحة النبوية في حديث عائشة رضي الله عنها، وفي القيام تقرأ القرآن، قال الثوري: “وإذا كان يقرأ وهو يدعو ويرغب إلى الله في الدعاء والمسألة لعله يوافق”.

الدعاء

سؤال العفو في ليلة القدر لون من ألوان الأدب مع الله، كأن العابد مع كثرة عبادته في تلك الليلة لا يراها شيئا ولا يرى نفسه شيئا، فيسأل الله العفو، والعفو من أسماء الله الحسنى ومعناه: المتجاوز عن سيئات عباده الماحي لآثارها، والله تعالى يبتلى عباده بالذنوب ليعفو عنهم بعد توبتهم لأنه يحب العفو، قال يحي بن معاذ: “لو لم يكن العفو أحب الأشياء إليه لم يبتل بالذنب أكرم الناس عليه” وخير الدعاء ما توازن فيه الداعي بين حاجات الدنيا والآخرة كهذا الدعاء القرآني الجامع: ﴿ربنا آتنا في ‌الدنيا ‌حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار﴾ [البقرة: 201]، والدعاء الصاعد إلى السماء ما كان بلسان الذلة والانكسار لا الفصاحة والانطلاق.

المرأة في العشر الأواخر من رمضان

يكثر السؤال من النساء في العشر الأواخر من رمضان وفي ليلة السابع والعشرين إذا نزل دم الحيض على المرأة ماذا تفعل كي لا تحرم أجر العبادة فيها، وما الذي يُسمح به من العبادات للحائض، وهل أخذ دواء يمنع الحيض يعد حلا فقهيا مناسبا؟

المرأة الحائض تمنع باتفاق الفقهاء من 4 أشياء: الصلاة، والصوم، والطواف، والجماع، ولها أن تقرأ القرآن، وهو مذهب الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ورجحه الإمام الشوكاني ومن المعاصرين الإمام القرضاوي، سواء كانت القراءة من حفظها أو من الهاتف وما شابهه من الوسائل الإلكترونية أو من المصحف المترجم، لأنه لا يأخذ أحكام المصحف الورقي المعروف، ولا يسمى قرآنا، أما المصحف المعروف الذي لا يشتمل على شيء سوى القرآن فتجوز القراءة منه للحائض مع عدم مسه إلا بحائل، تعظيما لكلام الله تعالى.

ويستدل على الجواز بقول النبي (صلى الله عليه وسلم) للسيدة عائشة (رضي الله عنها) لما حاضت في حجة الوداع “افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري” (رواه البخاري)، فلم يمنعها إلا من الطواف، ولو كانت تلاوتها للقرآن محرمة لبيّنها، فإن الحاج يشغل وقته بتلاوة القرآن، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

وقد سئل سيدنا معاذ بن جبل (رضي الله عنه) وهو من كبار فقهاء الصحابة، أيقرأ الجنب القرآن؟ قال: نعم، إن شاء، قلت: والحائض والنفساء؟ قال: نعم، لا يدعن أحد ذكر الله، وتلاوة كتابه على حال، قلت: فإن الناس يكرهونه، قال: من كرهه فإنما كرهه تنزها، ومن نهى عنه فإنما يقول بغير علم، ما نهى رسول الله عن شيء من ذلك.

وقياس الحائض على الجنب في المنع من قراءة القرآن لا يصح، لأن الحائض لا اختيار لها في حيضتها، أما الجنب فيمكنه رفع الجنابة بالاغتسال في أي وقت، كما أن الحيضة قد تطول بخلاف الجنب. القول بمنع الحائض من تلاوة القرآن يفوت عليها خيرا عظيما وأجرا كبيرا، ويعرضها لنسيان القرآن، واعتياد هجره، ويضيع على المرأة شطرا كبيرا من عمرها تحرم فيه من أنوار القرآن من دون دليل معتبر.

وللحائض كذلك أن تدخل المسجد وأن تفعل ما تشاء من العبادات غير الأربعة التي ذكرناها، والذي أرجحه أن توافق المرأة فطرتها ولا تأخذ أدوية تمنع حيضتها، والله الذي يثيب على الطاعة في العشر الأواخر من رمضان هو الذي حرمها عليها في أثناء الحيض، وإذا كان النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: “إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم”، فأولى بتحصيل هذا الأجر للحائض فإن عارضها سماوي لا كسب لها فيه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى