عاممقالاتمقالات الرأيمقالات فكرية

العقل الاستراتيجي وإشكالية الإسقاطات التاريخية في القراءة السياسية المعاصرة .

أ.مصباح الورفلي..

بدايةً، وقبل الولوج في الموضوع، أودّ الإشارة إلى أنني لست في موضع يخوّلني مجابهة من سالت أقلامهم في كتابات أثْرَت المكتبة التاريخية والإسلامية، وإن اختلفتُ معهم في منطلقات قراءة التاريخ التي يغلب عليها البعد العاطفي في كثير من الأحيان، لا القراءة النقدية التي تستبصر الماضي لتُبصِر المستقبل،وانطلاقًا من ذلك، جاء هذا المقال محاولةً لفهم سياقات البحث واستدلالاته، الذي قدمه الأستاذ الدكتور علي الصلابي، التي يبدو أنها لا تخلو من مواطن عدم الدقة في قراءة المشهد السياسي الراهن لسوريا، فضلًا عن المقاربة التقريبية التي وُظِّفت في إسقاط الأحداث التاريخية على الواقع المعاصر دون مراعاة الفوارق المنهجية والسياقية.
وهنا، أريد التنبيه على أمر منهجي العبد لله ليس بصاحب تخصص في العلوم السياسية أو الدراسات الإستراتيجية لأخوض في موضوع العقل الإستراتيجي من منظورهما الدقيق، بقدر ما يعنيني جانب محدّد يتصل بـ الاشتباك بين السياسة الشرعية، والمسألة العقدية، ومسألة الثوابت والمتغيرات، وإشكالية الإسقاطات التاريخية، من منطلق دراستي الأكاديمية في التاريخ ولي قراءات عديدة في مجال تخصصي هذا.
فهذه الجوانب كثيرًا ما تُستدعى في سياق التحليل السياسي المعاصر، ويجري توظيفها لبناء أحكام أو تبرير مواقف، مما يستدعي تفكيكًا هادئًا لهذه التداخلات.
فلننظر للعقل الإستراتيجي في حدوده المفهومية ماذا قال عنه المتخصصون بصورة موجزة وواضحة، فبحسب رأيهم فإن العقل الإستراتيجي يمثل القدرة على قراءة الواقع قراءة موضوعية، وتقدير مآلات القرارات، وفهم السياقات المؤثرة دون انفعال أو انتقاء.
ولا يحتاج المرء إلى التخصص الدقيق كي يدرك أن العقل الإستراتيجي لا يقتصر على استدعاء تجارب تاريخية أو توظيفها، بل يقوم على التمييز بين ما هو ثابت وما هو متغير، وعلى مراعاة الفروق بين بنية الدولة الحديثة وبين التجارب التاريخية التي نشأت في سياقات مختلفة تمامًا، وهنا تكمن الإشكالية التي وقع فيها الباحث وغيره.

الباحث لم يقف عند هذا التوصيف والتوظيف فقط فقد طرح منظورا آخر حول مسألة فك الاشتباك بين السياسي والشرعي مستدلا بإسقاطاته التاريخية.

من الجدير بالذكر أن مساحة الاشتباك بين السياسة الشرعية، والمسائل العقدية، ومنظور الثوابت والمتغيرات، تُعدّ واحدة من أعقد المساحات التي يختلط فيها التحليل الديني بالسياسي بالتاريخي.
ولذلك يصبح من الضروري فكّ هذا الاشتباك عبر إيضاح الآتي:
السياسة الشرعية تتغيّر بتغيّر واقع الناس وأحوال الدول.
المسائل العقدية ثابتة في أصولها، لكنها ليست إطارًا لإدارة الصراع السياسي المعاصر.
التاريخ ليس سلّمًا جاهزًا تُسحب عليه وقائع اليوم، بل تجربة بشرية محكومة بزمانها.

وقد قلتُ سابقًا إن تاريخ الحضارة الإسلامية شرقًا وغربًا مليء بنماذج أعمق وأقرب في فكّ هذه الاشتباكات مما ساقه الباحث، وفيها تجارب متنوّعة تُظهر كيف تعاملت الدول والقيادات العلمية والسياسية مع قضايا التعارض الظاهري بين الثابت والمتغيّر، وبين المبدأ والمصلحة، دون الوقوع في التبسيط أو القياس غير المنضبط.

إشكالية الإسقاطات التاريخية في قراءة الواقع السوري التي ساقها الباحث عبر استخدامه مجموعة من الأمثلة التاريخية لتفسير ما تقوم به القيادة السورية اليوم من إجراءات مرتبطة بالعدالة بين مكوّنات الدولة، ومحاولة ترميم البنية الوطنية.
غير أن الإشكال لا يكمن في استدعاء التاريخ ذاته، بل في طريقة توظيفه وفي القياس الذي لا يراعي اختلاف البيئات والمنطلقات.
وما أردتُ الإشارة إليه تحديدًا هو أن الباحث، في الوقت الذي يقدّم فيه قراءة إيجابية لإجراءات العدالة التي تتخذها القيادة السورية تجاه مكوّنات متعددة، تميل في المقابل إلى إقصاء تيار سوري له حضوره النضالي والسياسي والفكري والثقافي، وكأنه خارج نطاق العدالة الوطنية التي يدعو إليها.
وهذا التناقض لا يمكن تفسيره تاريخيًا أو شرعيًا أو سياسيًا، بل يعكس خللًا في منهج القراءة ذاته.

فالعدالة، إذا كانت مبدأً يؤسّس لرؤية وطنية جامعة، فلا يمكن أن تتحول إلى معيار انتقائي يشرعن قبول أطراف معينة واستبعاد أخرى، خصوصًا إذا كانت تلك الأطراف جزءًا واضحًا من المشهد السوري.
ختاما..

إن تجاوز إشكالية الإسقاطات التاريخية لا يكون عبر رفض التاريخ أو التقليل من قيمته، بل عبر تحرير قراءته من التوظيف الانتقائي والاستدلال البعيد عن المقاربات الحقيقية، وفهمه باعتباره خبرة بشرية مشروطة بسياقها وأداة تشبيهية أكثر من كونها تمتلك التطابق التام.
وحين نفصل بين السياسي والشرعي والتاريخي، ونقرأ الواقع كما هو لا كما نرغب أن يكون، يصبح بإمكاننا تقديم تحليل أقرب إلى الإنصاف، وأدق من حيث الفهم، وأبعد عن الاختزالات التي تضع الحاضر في قوالب الماضي.

وآنذاك، تكون المقاربات السياسية أقرب إلى خدمة مشروع وطني جامع، لا إلى تأكيد رؤية أحادية تُقصي من لا يتوافق معها، أو تبحث في التاريخ عمّا يعزّزها دون نظر إلى تنوع التجارب واتساعها عبر قرون من الحضارة الإسلامية.

Related Articles

Back to top button