الفتوى البرقاوية
فرج كُندي
معروف أن الإفتاء هو: بيان الحكم الشرعي عند السؤال عنه، وقد يكون بغير سؤال ببيان حكم النازلة لتصحيح أوضاع الناس وتصرفاتهم.
والمُفتي هو العالِم بالأحكام الشرعية وبالقضايا والحوادث، والذي رزق من العلم والقدرة ما يستطيع به استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها وتنزيلها على الوقائع والقضايا الحادثة.
والفتوى أمر عظيم؛ لأنها بيان لشرع رب العالمين، والمُفتي يوقّع عن الله تعالى في حُكمه، ويقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أحكام الشريعة.
وقد قال الشاطبي فى موافقاته عن المفتي: ((المفتي هو القائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم ….))، أما ابن القيم فيقول في إعلامه: ((المفتي هو المخبر عن حكم الله غير مُنفذ)) وقال ابن الصلاح عن الفتوى: ((إنها توقيع عن الله تبارك وتعالى))
وأول من وقع عن اللَّهِ الرسول، وأول من قام بهذا المنصب الشريفِ سيد المرسلين، وَإِمام الْمُتقين، وخاتم النبيين، عبد الله ورسوله، وأَمينه على وحيه، وسفيره بين عباده؛ فَكان يفتي عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] فكانت فتاواه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – جوامعًا للأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب، وهي في وجوب اتباعها وإحكامها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب، وليس لأحد من المسلمين العدول عنها ما وجد إليها سبيلا، وقد أمر الله عباده بالرد إليها حيث يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59]
ولما كانت الفتيا هي القول عن الله عز وجل, والمفتي كما قال الشاطبي رحمه الله قائم في الأمة مقام النبي صلى الله عليه وسلم، ونائب عنه في تبليغ الأحكام، فهو من هذه الناحية شارع إما بواسطة النقل أو بإنشاء الأحكام بسبب نظره واجتهاده، فهو مخبر عن الله كالنبي وموقع للشريعة على أفعال المكلفين بحسب نظره، وأمره نافذ في الأمة.
ذكر أبو عبد الله المالكي فيما جمعه من مناقب شيخه أبي الحسن القابسي الإمام المالكي: “إنه كان ليس شيء أشد عليه من الفتوى، وإنه قال له عشية من العشايا ما ابتُلي أحد بما ابتليت به، أفتيت اليوم في عشر مسائل”.
يتأكد خطر منزلة الإفتاء من وجه آخر، وذلك أن هذا المنصب تولاه الله بنفسه كما في القرآن الكريم، (يستفتونك قل الله يفتيكم) النساء 17 في موضعين من سورة النساء. فهم قد استفتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكل الله تعالى إليه الفتيا وإنما تولاها بنفسه وأسندها إلى ذاته المقدسة).
وبعد أن تبينت خطورة الفتوى ومسؤولية المفتي، نقف أمام الفتوى والمفتي، حيث سجل لنا التاريخ مدى خطورة الأمر، ومدى التزام المفتي الحق بالفتوى ومدى الصبر والتضحية التي يقتضي أن يأخذها المفتي المدرك لمسؤوليته، وأنه يوقع عن رب العالمين؛ فلا تأخذه لومة لائم ولا ترهبه سطوة سلطان الأرض والدُنا؛ لأنه يرضي رب السموات ورب الآخرة.
احتل العبيديون طرابلس سنة (297 من الهجرة) وقد واجهوا ثورة عارمة من قبيلة هوارة، وانضمت إليها قبيلة زناتة ضد العبيديين بقيادة أبي هارون الهواري.
ومع دخول سنة (302 الهجرية) ثار أهل برقة، وهم من معتنقي مذهب أهل السنة على فقه الإمام مالك، وانتقموا من العبيديين الذين فعلوا الأفاعيل في سكان برقة، بسبب رفضهم اعتناق المذهب الشيعي الإسماعيلي، واستنكارهم إعلان سب العبيديين للصحابة رضي الله عنهم على المنابر وفي الأسواق، فقتلوا من العبيديين عاملهم وكثير من جنوده
وحدث في زمن المنصور ثالث الخلفاء العبيديين الإسماعيليين ( 334- 341هـ) أن حاولت الدولة العبيدية أن تجبر سكان برقة على اتباع المذهب الإسماعيلي في الأخذ بطريقة الحساب في رؤية الهلال، وأراد أمير برقة من قبل العبيديين أن يكون الإعلان على لسان مفتي برقة وقاضيها (الشيخ محمد الحبلي).
قال الإمام الذهبي رحمه الله، في ترجمته،
للإمام الشهيد قاضي مدينة برقة، محمد الحبلى، أتاه أمير برقة فقال غدًا العيد، قال حتى نرى الهلال، ولا أخطر الناس وأتقلد إثمهم، فقال: بهذا جاء كتاب المنصور -خليفة العبيديين- وكان هذا من رأي العبيدية يفطرون بالحساب، ولا يعتبرون الرؤية، فلم يُرَ هلال فأصبح الأمير بالطبول والبنود وأهبة العيد، فقال القاضي: لا أخرج، ولا أصلي؛ فأمر الأمير رجلاً خطب، وكتب بما جرى إلى المنصور، فطلب القاضي إليه فأُحضر، فقال له: تنصل وأعفو عنك، فامتنع؛ فأمر فعُلق في الشمس إلى أن مات، وكان يستغيث من العطش فلم يسقَ، ثم صلبوه على خشبة؛ فلعنة الله على الظالمين.
إن موقف القاضي”الحبلي” الثابت الذي لم يتزحزح ولم يتغير, وصموده في وجه السلطان الجائر؛ يعتبر محطة مشرقة في تاريخ الفتوى والإفتاء والمفتين؛ يجب أن يقف عندها كل مفتٍ ويتعلمها كل طالب فقه، وأن تعتمد كدرس ينبغي أن يقف عنده من أراد أن يتصدر الإفتاء.
فالفتوى من الأمور الخطيرة التي لها منزلة عظيمة في الدين، والمفتي خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في أداء وظيفة البيان، ومُوَقِّع عن الله تعالى، قال ابن المنكدر: العالم موقع بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم.
_____________________________________
1- الدولة الفاطمية ،علي محمد الصلابي، بتصرف
2- المرجع نفسه
3- سير أعلام النبلاء ،الذهبي، (ج15)