الفسيفساء السورية: توحيد هوية أم محاصصة طائفية؟

أ. خليل البطران
مقدمة: مصطلح ناعم يخفي مشروعًا خطيرًا
بعد أن طُويت صفحة من أكثر صفحات التاريخ السوري ظلامًا، امتدت لستٍ وخمسين سنة من القهر والاستبداد، وبدأت سوريا بالخروج من عنق الزجاجة إثر رفع العقوبات الدولية عنها، برز على سطح الخطاب السياسي والإعلامي مصطلح “الفسيفساء السورية”، حتى غدا يُسوَّق في الإعلام ومنصات التواصل وكأنه التعبير الأمثل عن طبيعة المجتمع السوري.
لكن هذا المصطلح، الذي يبدو في ظاهره محايدًا وجماليًا، يخفي وراءه دلالة سياسية خطيرة. فهو يُستخدم لتكريس فكرة أن سوريا دولة “مكونات متساوية”، تُبنى على التعدد العرقي والطائفي وكأن لا وجود لأغلبية واضحة، ما يفتح الباب أمام المطالبة بمحاصصات طائفية وإثنية تُهدّد وحدة الدولة وتُشبه ما جرى في لبنان والعراق من خراب سياسي وشلل مؤسساتي.
أولًا: هل سوريا “دولة مكونات” فعلًا؟
مصطلح “دولة مكونات” يُستخدم غالبًا لوصف دول ذات تنوّع عرقي أو ديني متقارب عدديًا، كما هو الحال في بلجيكا (الفلاندر والوالون)، أو سويسرا (الألمان، الفرنسيون، الإيطاليون)، أو حتى كندا (الأنجلوساكسون والفرنكوفونيون).
أما سوريا، فهي ليست كذلك. فهي دولة ذات أغلبية عربية سنية واضحة، تتجاوز نسبتهم 70% من السكان. أما الأقليات، فتمثل طيفًا متنوعًا من الدروز والعلويين والمسيحيين والشيعة والإسماعيليين، بالإضافة إلى أقليات قومية كالكرد والتركمان والسريان والأرمن.
ثانيًا: بالأرقام… من يشكل المجتمع السوري؟
وفقًا لإحصائيات حديثة من مصادر غربية وأممية، نعرض لك الصورة الحقيقية للبنية السكانية السورية:
العرب يشكلون حوالي 80-85% من سكان سوريا.
الأكراد حوالي 10%.
التركمان بين 3-4%.
السريان/الآشوريون/الأرمن والشركس مجتمعين لا يتجاوزون 3-4%.
ومن حيث التوزيع الديني:
المسلمون السنة: 70-74%
العلويون: 10-11%
الدروز: 3%
الشيعة والإسماعيليون: 2-3%
المسيحيون (أرثوذكس، كاثوليك، سريان، أرمن): 10%
المصادر:
United States Department of State – International Religious Freedom Report (2023)
CIA World Factbook – Syria
Wikipedia: Demographics of Syria
Wikipedia: Religion in Syria
ثالثًا: الفسيفساء السورية… جمال اللفظ وخبث النوايا
لا أحد يُنكر أن مصطلح “الفسيفساء” يحمل في ظاهره دلالة جمالية، تصور لوحة مبهرة من التنوع، لكن حين يُستخدم لوصف المجتمع السوري، يصبح المعنى خادعًا.
فالدلالة الجمالية تُسخّر هنا لتمرير مشروع سياسي يهدف إلى تمزيق المجتمع إلى “مكونات” متساوية ظاهرًا، مختلفة طائفيًا وعرقيًا في الباطن، بما يفتح الباب للمحاصصة والتقسيم.
إن من يروّجون لهذا المصطلح لا يعبّرون عن احترام للتنوع، بل يوظفونه لتكريس مفهوم الدولة المركبة، واستنساخ نموذج سياسي مفكك يشبه النموذج اللبناني أو العراقي، حيث الشلل العام والانهيار البنيوي نتيجة المُحَصصات.
رابعًا: دروس من أوروبا… ألمانيا ليست فسيفساء
للمقارنة، نأخذ ألمانيا مثالًا حيًا: فيها أكثر من 4 ملايين تركي، وملايين من العرب، والأفارقة، واللاجئين من سوريا وأوكرانيا. ومع ذلك، لا يُقال إن ألمانيا “فسيفساء”. الدولة تُبنى على المواطنة، لا على الأصول القومية والدينية.
فكيف يُقبل أن تُختزل سوريا – ذات الأغلبية الساحقة – في مصطلح يُسوّي بين الجميع، ويُلغي الأغلبية، ويُمهّد لتفكيك الدولة باسم “التعددية”؟
المصادر:
Statistisches Bundesamt Deutschland (Destatis) – 2023
Pew Research – Religion & Migration in Europe
خامسًا: نحو مشروع وطني جامع لا يقبل القسمة
سوريا اليوم تقف على عتبة تاريخية جديدة، ولا يمكن أن تنهض إلا بمشروع وطني جامع لا يُقصي أحدًا، لكنه أيضًا لا يُساوي بين من ضحّى ومن وقف متفرجًا أو متحالفًا مع القاتل.
نعم، لكل مكوّن حقه في الاحترام، ولكل مواطن حقه في العدل، لكن الكفاءة والانتماء الوطني لا الطائفة أو القومية، هما المعيار الذي يُبنى عليه مستقبل سوريا.
خاتمة: الفسيفساء خرافة سياسية لا واقع ديمغرافي
مصطلح “الفسيفساء السورية” ليس مجرد وصف بريء، بل تعبير سياسي يُراد به فرض أمر واقع جديد يُقزّم الأغلبية ويُضخّم دور الأقليات ضمن أجندة تفتيت الدولة. سوريا، مثل كل دول العالم، فيها أقليات، لكن لا يمكن بحال تسويتها بدول مكونات حقيقية.
إن الطريق نحو دولة عادلة موحدة لا يمر من بوابة “المحاصصة”، بل من بوابة المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، دون تمييز ولا امتياز طائفي أو عرقي.