اجتماعيةثقافة ومجتمععامقضايامقالاتمقالات فكرية

القـوة الناعمـة!

أ. محمد خليفة نصر

لا أدري ما الذي يجول بخاطر القارئ عندما يقرأ، أو يسمع، عبارة «القوة الناعمة»! أما عندي فالقوة الناعمة هي ما يجعل المسلم يشاهد بلاد المسلمين تخرّب واحدة تلو الأخرى فلا يلوم الظالم، ولا ينصر المظلوم، بل يصطف إلى جانب الظالمين! ومن ذلك مثلاً توحد موقف بعض المسلمين مع موقف أشد الناس عداوة للذين آمنوا في لوم حماس، كلما دمر اليهود بيوت غزة على رؤوس ساكنيها!

من جهة أخرى؛ تجعل القوة الناعمة نياط قلب المسلم تتقطع إشفاقًا على أبناء المعتدين ونسائهم عندما يدعو أحد خطباء الإسلام الميت (من على المنبر يوم الجمعة) «اللهم دمر أعداءك أعداء الدين.. اللهم يتم أطفالهم ورمل نساءهم»! المسلم نفسه (الذي تتقطع نياط قلبه على الكافرين) يتحول إلى كائن أبلد من خرتيت عندما تسفك دماء المسلمين، وعندما تترمل نساؤهم ويشرد أطفالهم، بالفعل وليس بالدعاء!
للقوة الناعمة إذن تأثير مزدوج ومتناقض: انفعال شديد من جانب وبلادة من الجانب الآخر! انفعال شديد من فور سماع دعاء لا يحظى بأية استجابة، وبلادة منقطعة النظير إزاء واقع مؤلم: دماء المسلمين تسفك على مدار الساعة، وأعراضهم تنتهك كل يوم، ومقدراتهم تنهب منذ قرون، ومع ذلك يصطف البليد مع المعتدين، ولا يلوم إلا المعتدى عليهم!

القوة الناعمة التي أصفها إذن؛ هي القوة التي لا تقف عند تحويل «الإسلام» إلى كلمة فارغة، بل تملأ فضاءه الثقافي بقيم نقيضة (العداوة بدل الأخوة، والخذلان بدل النصر) من دون أن يشعر مدعي الإسلام بشيء من ذلك! هذا هو وجه النعومة في القوة اليهودية-المسيحية المهيمنة على الحضارة الغربية. هذه القوة جندت كثيرًا من أبناء المسلمين في حربها على الإسلام وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا!

مما تتكون القوة الناعمة؟

القوة الناعمة هي قوة التأثير التي تملكها مؤسسات التعليم ووسائل الإعلام التي تشكل تصورنا للعالم وتمنحنا قيمًا للحكم على العلاقات السائدة فيه من دون أن نشعر. لن أتحدث هنا إلا عن مؤسسات التعليم الغربية، ومن خلال تجربتي الشخصية مع ثلاثة من الطلبة العرب (ليبي ومصري وجزائري) كانوا يحضِّرون درجة الدكتوراه في جامعة فرنسية في ثمانينيَّات القرن الماضي. التجربة حدثت قدرًا، وكان في الإمكان أن تمر مرور الكرام، لو أنها لم تحدث أمام إنسان يقسم العالم إلى مسلمين وغير مسلمين، في زمن انتشر فيه وباء المساواة بين الكفر والإيمان.

أولاً: الطالب الليبي.
لا أدري ماذا كانت المناسبة، لكنه أخبرني أن أستاذه المشرف على رسالة الدكتوراه قال له: «أنتم تعانون من العقلية القرآنية، الصح صح.. والخطأ خطأ.. دون نقاش»! لا أذكر كيف ناقشته، أو إن كنت ناقشته أصلاً، على اعتبار أن هذا النوع من الشذوذ معدود في فرنسا من الحريات، لكن خطل عبارة «أنتم تعانون من عقليه قرآنية» علق بذهني لما لحق هذا الموقف من مواقف متفرقة كونت لدي قناعة بأني أمام ظاهرة أيديولوجية تستهدف المسلمين في مصدر قوتهم (القرآن).

بعدها (بأيام/أسابيع.. لا أدري) التقيت صديقي هذا في مقهى الكلية فدعاني لسماع ما أعدّه تقديمًا لمناقشة رسالة الدكتوراه. هالني أن تكون العبارة الافتتاحية في التقديم هي «نحن نعاني عقلية قرآنية..»، فلم أدعه يكمل.. وشرحت له جملة من الأمور المتعلقة بالقصور على مستوى مناهج البحث العلمي في الكلية التي تخرجنا فيها (أنا وهو)، وأن ذلك يمكن أن يُصلح بقرار إداري من دون التعرض للقرآن.. وانتهيت أمام إصراره على سلامة العبارة إلى الاعتذار إليه عن عدم قدرتي حضور مناقشة رسالته إذا كان التقديم للمناقشة سيكون بذاك الشكل.. وافترقنا! كان إنسانًا كريمًا وبالغ الرقة ولذا، عندما التقينا بعدها بأيام قال لي: «تعال احضر المناقشة.. لقد حذفت العبارة التي أزعجتك..»! وحقًا حضرت المناقشة وبعدها احتفلنا بنيله درجة الدكتوراه.. تغمده الله بواسع رحمته.

ثانياً: الطالب المصري.
كان هذا الطالب يدرس تحت إشراف الأستاذ نفسه الذي أشرف على رسالة زميله الليبي. وفي إحدى المرات التي التقيته فيها فاجأني بلهجة مصرية: «شايف ابن الكلب ده..» يقصد الأستاذ المشرف! فسألته عن جريرة ابن الكلب فإذا به يقول: «قال لي أنتم لا تنتقدون القرآن.. القرآن قابل للنقد.. أي نص قابل للنقد»! عندئذٍ أدركت أن ما قيل لزميله الليبي لم يكن مصادفة ولا حدثاً عابراً، وأن أستاذهم الذي يؤكد لهم أنه ليس صهيونيًا، وإن كان يهوديًا، كان فاعلاً نشطًا في الصراع الأيديولوجي الذي لا يعي أبناء المسلمين من مفرداته شيئًا- لأنهم عقليًا ليسوا في مستواه، أو لأنهم لم يُعَدُّوا له بكلمات أكثر دقة-على الرغم من أن مالك ابن نبي قد اهتم به وحدّث عنه الجيل الذي سبقنا (راجع كتابه «الصراع الفكري في البلاد المستعمرة»)!

الأستاذ اليهودي الذي قدم لطلبته المسلمين فكرة «نقد النص»، ونصحهم بتطبيقه على القرآن، يتم استقباله من قبل الأوساط العلمية في مصر كـ «نصف إله» كيف لا وهو القادم من فرنسا؟! وهنا لابد من تقرير أن الذي ليس له قدرة على تخيُّل القوة الناعمة لفرنسا لن يدرك النفوذ الذي تملكه فرنسا في مصر، و لن يدرك أن إبادة الإخوان المسلمين في مصر توجهها الروح الصليبية التي سكنت قلوباً مصرية بتأثير التعليم الغربي (والفرنسي منه على وجه الخصوص). ونظراً لأن فرنسا حاضرة في مصر على أنها قوة ناعمة فقط فلن ألوم القارىء إن لم يصدق شيئًا مما يقرأ، فالقوة الناعمة من جنس الشرك: (أخفى من دبيب نملة سوداء على صخرة صماء في ليلة ظلماء)! وسأعود لنتاج الظاهرة بعد الفراغ من تجربتي مع الطالب الجزائري.

ثالثاً: الطالب الجزائري.
كان من القلَّة بين أبناء العمال (المهاجرين) الذين أكملوا تعليمهم الجامعي، دع عنك وصوله إلى تحضير درجة الدكتوراه، لأن أغلب أبناء المهاجرين وإن كانوا في غاية الذكاء إلا أنهم يتحطمون في مرحلة المراهقة لهشاشة محيطهم الأسري في بيئة يُعَدُّ فيها الزنا وشرب الخمر من الحريات!
في أحد اللقاءات العابرة في المقهى قال لي، وأذكر أننا كنا نحتسي القهوة وقوفاً، الأستاذ فلان قال: عندما يقصف الفلسطينيون أو اللبنانيون اليهود يقال «إرهاب»، وعندما يقصف اليهود لبنان يقال أعمال انتقامية « représailles»، وأردف متأثرًا بالأستاذ ومتبنيًا مضمون موقفه بكل صراحة: «هذه هي السياسة.. نفاق»! ونطق الجملة بالفرنسية: C’est ça la politique; c’est l’hypocrisie ادانة الأستاذ الضمنية للإخفاق الأخلاقي لوسائل الإعلام لكيلها بمكيالين في ما يخصُّ الصراع (العربي-الصهيوني) نفسه كان محض أداة لتمكين فكرة مناقضة للإسلام (النفاق) من رأس من الرؤوس الفارغة!

الأمثلة السالف بيانها تبين كيف يمكن أن يزيح الأستاذ الفرنسي (بجملة عابرة) تلميذه المسلم من دائرة أبي بكر الصديق، وعلي ابن أبي طالب، وعبد الكريم الخطابي، وعمر المختار، ويضعه على خطى ميكافيللي وتاليران (اللذين لا يقيمان للأخلاق الكريمة والكرامة وزنًا) فيفقد بذلك البوصلة التي قد تجعله متميزًا (في الفهم والتفكير والتصرف) من غير المسلمين. النجاح الأيديولوجي للأستاذ الفرنسي لا يمكن أن يكون كاملاً إلا إذا تسلَّم تلميذه العربي وعاءً فارغًا: من دون أدنى تحصين ضد الملوثات الثقافية.

وحتى يتسلَّم الأستاذ الفرنسي تلاميذه العرب أوعية فارغة يتم تخريب التربية والتعليم في البلاد العربية أولاً، ثم ينتقل التخريب إلى إجهاض جهود أي جهة أخرى قد تحاول تحصين ناشئة المسلمين ضد الاختراق الأيديولوجي (جمعية العلماء في الجزائر أو جماعة الإخوان المسلمين في مصر).

ومهما كانت قدرة القارئ على رفض الحق (ولاسيما عندما يأتي من إسلامي) فلن يستطيع إنكار أن لغتنا العربية كانت عند الطبقة المتعلمة قبل مئة سنة أفضل مئة مرة مما هي عليه الآن! والسر في ذلك أن مؤسساتنا التعليمية التي كانت سليمة قبل مئة سنة قد خربت تماماً بتأثير برامج غربية وعقول تمت برمجتها في الغرب! لم تكن مؤسساتنا التعليمية مثالية قبل قرن من الزمان، ولكن حرصها على اللغة العربية (أداة اتصالنا بالقرآن) لا شك فيه، ومحافظتها عليها مما لا يمكن إنكاره. وعلى الرغم مما سلف لن أستغرب إذا اعتقد القارئ أن فساد اللغة العربية قد تم مصادفة أو لسوء الطالع، لأن الغالب على أبناء المسلمين النظر إلى الأمور على ذاك النحو. أما التحليل العلمي- الموضوعي المبني على شواهد ودلائل وتجارب تمكن من استقراء الأحداث، على طريقة ابن خلدون، فهو يعني لهم أنه عملية تعذيب محض، أو «أدلجة» يقوم بها الإخوان. وفيما عدا ذلك تكفي فكرة «المؤامرة» لتفسير كل ظاهرة معقدة وضعها القدر أمام عقل فارغ!

فيما تبقى من هذه الورقة سأستشهد بنصوص تبين استجابة أبناء المسلمين للدعوة إلى «نقد النص» والمقصود منها بطبيعة الحال هو تكذيب القرآن. سأبدأ بآخرها ثم أصعد التاريخ حتى نصل إلى لحظة انطلاق هذا النوع من النقد مع عودة طه حسين من فرنسا. آخر النقاد هو د/عبد المجيد الشرفي، الذي قرر أن «المعرفة التاريخية الحديثة تنفي إمكان اللقاء بين سليمان وملكة سبأ»، وهذا معناه (عند هذا الناقد) أن ما ورد في سورة النمل مشكوك فيه، إن لم يكن محض اختلاق!

الدكتور سيد القمني يتجاوز الشرفي بقوله «أنا لا أؤمن بوجود الجن»، على الرغم من وجود سورة بهذا الاسم في القرآن الكريم! وحتى لا يمنح القمني فرصة تكفيره للغير قال بعضلة لسانه «أنا كافر»! (هذا الجرأة صادفته في بروكسل حيث ألقى محاضرة.. تجدها على اليوتيوب)! ولا يستغرب من هؤلاء النقاد شيء من هذا الإفك لأنهم يعدُّون القرآن «أساطير الأولين»، ويتعاملون معه على هذا الأساس. والدليل على ما سلف ما جاء في كتابات الناقد الليبي الشهير الصادق النيهوم الذي كتب لآتي: «لا نزال ننظر إلى كتاب الله بعين أعرابي ميت منذ ألف سنة، ولا نزال نتكلم بلسانه ونردد في كتبنا وإذاعاتنا – ونعلم أطفالنا – كل ما دار في رأس ذلك الأعرابي الجاهل من أساطير، ابتداء من حبس يأجوج ومأجوج وراء سور من الحديد، إلى فلق البحر، وحوار الشيطان مع آدم، وخروج يونس من بطن الحوت، وتسخير عفاريت الجن في خدمة سليمان. وهي قصص رواها القرآن عن التوراة وسماها [قصصاً] ».

القوة الناعمة برمجت عقول الشرفي والقمني والنيهوم ودربتها على تكذيب القرآن تحت عنوان محايد (نقد النص)! مصطلح «نقد النص» يمكن أن يسمعه الغافل ألف مرة من دون أن يدرك مبناه أو معناه المؤدي إلى تكذيب القرآن. إمام هؤلاء النقاد اسمه طه حسين، الذي دشن حقل «نقد النص» بعد عودته من فرنسا بدرجة دكتوراه؛ دشن الدكتور هذا الحقل الجديد بكتابه «في الشعر الجاهلي» حيث كتب: «للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما ولكن هذا لا يكفي لصحة وجودهما التاريخي»!

في إمكان فرنسا أن تفخر بقوتها الناعمة، وفي إمكانها أن تفخر بجنودها المجهولين (مجهولين لنا فقط فهي تعرفهم واحداً واحداً) الذين منحتهم أعلى شهاداتها حتى يكذبوا القرآن – بدلاً منها – جهارًا نهارًا في بلاد المسلمين. وعندما يكون هؤلاء في الحكم تزودهم بما في جعبتها من مكر وسلاح (آخرها طائرات بدون طيار) حتى يبيدوا، نيابة عنها، الذين لا يطبِّقون نقد النص ولا يعطون الدنية في دينهم!

Related Articles

Back to top button