مقالاتمقالات فكرية

القيم الإنسانية في حضارة الإسلام

 

د. أحمد الحاسي

لقد جاءت حضارة الإسلام، لتنظم حياة الإنسان، وتحرره من ربقة العبودية لغير الله، وتمنحه السعادة في الدارين، فوقف في وجهها عتاة الأرض وطغاتها؛ لمّا علموا أنها ستمنعهم من ظلمهم وجهلهم واستبدادهم، فأمر الإسلام أتباعه بالدفاع عن حضارتهم، وإيصال نورها وضيائها إلى كل الناس، فخاضوا حروباً طاحنة، ومعاركَ ضارية، لنشر رسالتهم، وبلوغ دعوتهم، حتّى “انجلى غبار الفتح وصلصلة السلاح عن إمبراطورية جديدة ولا أوسع، وعن حضارة ولا أسطع، وعن مَدَنيّة ولا أروع، عوّل عليها الغرب في تطوّره الصاعد ورقيه البنّاء” كما يقول إدوار بروي في موسوعة تاريخ الحضارات العام (3/109)، ولهذا كان على المسلمين أن يحفلوا برسالتهم، ويعيدوا مجدَ حضارتهم، وتحكيم شريعتهم، تحقيقاً لكمال الامتثال لله جلَّ وعلا، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ﴾]المائدة (49)[.
وسنتكلّم في سلسلة من المقالات عن أهم القيم الإنسانية التي جاء بها الإسلام وتمثّلها أتباعه في أطوار حضارتهم المختلفة، في السلم والحرب، وفي العلوّ والخفض!
وقد اختُصّ هذا المقال بمقدمة توضيحية عن ماهية القيم الإسلامية التي سنتناولها في هذه السلسلة المباركة، إن شاء الله تعالى، فنقول:
المقصود بالقيم الحضارية للإسلام هنا: هو إيضاح ما لهذا الدين الذي جاء به محمد من نظم ومبادئ وسمات عظيمة قامت عليها حضارته التي حكمت هذه الأرض ما يقرب من اثني عشر قرناً من الزمان، إذ تُمثّل الأخلاق والقيم الإسلامية، الجانب المعنوي والروحي في حضارة الإسلام، بل هي الجوهر والأساس الذي تقوم عليه كل الحضارات الإنسانية، وفي ذات الوقت تضمن سرّ بقائها وصمودها عبر التاريخ، ولهذا عندما انهارت منظومة القيم الحضارية في الجاهلية، بَعثَ الله نبيه محمداً ﷺ  لمكارم القيم والأخلاق، ومعدناً للخير، وموئلاً لأعظم قيمة حضارية، كما قال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ ]الأنبياء (107)[. وما يُميّز حضارة الإسلام عن غيرها من سائر الحضارات أن هذه القيم والأخلاق فيها لا تقتصر على المعنى والروح فقط، بل تمتدّ لتشمل الجانب العملي والتطبيقي كذلك -كما سنرى في المقالات اللاحقة- لذلك قامت حضارته الإسلامية على قيم عظيمة، وأخلاق فاضلة، كان لها الفضل في ازدهار دولة الإسلام، وتماسكها، وتحقيقها لانتصارات باهرة، اعترف بها العلماء والمؤرخون حتى من غير المسلمين، يقول ول وايريل: “وإذا حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس، قلنا: إن محمداً ﷺ كان من أعظم عظماء التاريخ، فقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب ألقى به في دياجير الهمجية حرارة الجو وجدب الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحاً لم يدانه فيه أيّ مصلح آخر في التاريخ كله، وقلّ أن نجد إنسانًا غيره حقق كل ما كان يحلم به، وقد وصل إلى ما كان يبتغيه عن طريق الدِّين . . وأقام فوق اليهودية والمسيحية، ودين بلاده القديم، ديناً سهلاً واضحاً قويّاً، وصرحاً خُلُقيّاً قِوَامه البسالة والعزّة القومية، واستطاع في جيلٍ واحد أن ينتصر في مائة معركة، وفي قرنٍ واحد أن يُنشئ دولةً عظيمة، وأن يبقى إلى يومنا هذا قوّةً ذات خطر عظيم في نصف العالم” (قصة الحضارة، ول وايريل، 13/47)، ولقوّة القيم الحضارية الإسلامية وتماسكها، فقد كان لها التأثير البالغ في حضارات الأمم الأخرى، وفعلت فيها ما لم تفعله حضارة أخرى على مرّ التاريخ كله، وهذا بشهادة غير المسملين أيضاً، يقول غوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب: “ولا نرى في التاريخ أمةً ذات تأثيرٍ بارز كالعرب؛ وذلك أن جميع الأمم التي اتصل العرب بها اعتنقت حضارتهم، ولو حيناً من الزمن، وأن العرب لما غابوا عن مسرح التاريخ، انتحل قاهروهم كالترك والمغول، تقاليدهم، وبَدَوا للعالم ناشرين لنفوذهم، أجل ماتت حضارة العرب منذ قرون، ولكنّ العالم لا يعرف اليوم غير دين أتباع النبي ﷺ ولغتهم في البلاد الممتدة من المحيط الأطلنطي إلى السند، ومن البحر المتوسط إلى الصحراء .. وما عجز الأغارقة والفرس والرومان عنه في الشرق، قَدَر عليه العرب بسرعة ومن غير إكراه” (ص584).
وهكذا فقد كان لمنظومة القيم الحضارية التي جاء بها الإسلام، الفضل الكبير في بقاء هذه الحضارة وتميزها على سائر الحضارات الأخرى، كقيمة: العدل، والرحمة، والمساواة، والحرية، والوسطية، والحب، والعزة، والكرامة، وغيرها من القيم والأخلاق الفاضلة، التي سنتناولها في مقالات متعاقبة بعون الله وتوفيقه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى