عاممقالاتمقالات الرأيمقالات تربوية

الكآبة السياسيّة

الشيخ د. سالم الشيخي
ذكرت في مقالة سابقة أن أصحاب الحق المغتصب من المظلومين والمضطهدين قد يتكيّفون وينسجمون مع واقع الظلم والظالمين ويرضون به؛ باسم العجز وفقد المقدرة عن رفعه أحيانًا، وباسم العقلانية والواقعية أحيانًا أخرى، وعند وقوع هذا التكيّف المذموم في نفوس المظلومين تمتزج نفوسهم مع هذا الواقع الظالم حتى تصبح جزءًا منه، وهي الحالة التي سمّاها الإسلام الركون إلى الظالمين، وهي حالة ممنوعة شرعًا وعقلًا ومنطقًا وتاريخًا، وخلاصتها استجابةٌ لضغوط الظلمة، تدفع بالمظلوم إلى منطقة الرضا والقبول بالظلم، إلى أن ينتهي إلى إعطاء المشروعية للظالم المعتدي، ثم بعد ذلك يصبح المظلوم جزءًا من منظومة الظالم، هذه الحالة بمجموعها تساوي الركون إلى الذين ظلموا.
وأفضل نموذج يمثل هذه الحالة في الواقع المعاصر هو: نموذج حركة فتح في الحالة الفلسطينيّة، فقد انتهوا بعد نضال طويل وتضحيات جسام، إلى مرحلة القبول بالظلم وهو الاحتلال هنا، ثم دخلوا إلى مرحلة إعطاء المشروعية للمحتل فيما احتل من الأرض واعترفوا به مالكًا شرعيًّا لأرض اغتصبها وقتل وشرّد أهلها، كل ذلك في مقابل قطعة صغيرة من الأرض المحتلة، ثم مع الأيام أصبحوا جزءًا من منظومة الظالم المحتل ويده الأمنيّة والسياسيّة والمجتمعيّة.
هذه الحالة تصيب صاحبها بما يمكن أن نسمّيه بالكآبة السياسيّة، والكآبة والاكتئاب حالة مرضيّة نفسيّة لها خصائص وأعراض كثيرة، من ذلك الإحساس بانعدام الأمل في المستقبل مع صعوبات كثيرة في اتخاذ القرارات المناسبة، وشعور عميق بقلة قيمة النفس وهوانها وغير ذلك من الأعراض.
الكآبة السياسية أو الا كتئاب السياسي مرض أصاب عددًا من الأحزاب السياسيّة في عالمنا العربي والإسلامي، وهو حالة سياسية لها أعراض مدمّرة كثيرة، أخطرها حالة اليأس من رؤية المستقبل دون وجود الظالم على خارطة المستقبل السياسي للبلاد والعباد، مع انعدام الأمل في التخلص من الظالم فهو حالة واقعية لا بد من التسليم لها وبها.
هذا الانعدام للأمل في أيّ حل للأزمات السياسيّة عندما يمر به صانع القرار في الحزب السياسي أو المنظمة أو نحوها ينتهي إلى حالة من الدفاع بشراسة عن الواقع المهين من حوله، هذا الواقع الذي لم يعد يراه بسبب انعدام الرؤية الحقيقيّة عنده؛ فهو مصاب بالكآبة السياسيّة الناتجة عن الاستسلام لهذا الواقع والشعور بالعجز التام عن تغييره، ثم مع مرور الزمن يبدأ في مرحلة الدخول في منظومة الظالم المعتدي لينتقل بعدها إلى شرعنة هذه المرحلة والتماس الأدلة والبراهين العقلية والمنطقية وأحيانًا الدينية على أنها حالة مغلقة لا يمكن الفرار منها، وأن المستقبل لا يمكن أن يتصور دونها وهي مرحلة يسميها البعض بظاهرة تصنيم التّاريخ.
والعجيب أنه بعد كل هذه المراحل يصل إلى مرحلة يصبح فيها جزءًا من منظومة الظالم المعتدي، وقد يُخلص في دفاعه عن الظالم أكثر من دفاع الظالم عن نفسه، ولذا لا أستغرب أحيانًا أن بعض أصحاب هذه الكآبة يقفون أمام كل مواجهة إعلامية ضد الظلمة والمعتدين بشكل يجعلهم أشبه بالذباب الإلكتروني، فما إن يتصدّى أحد من الناس لبيان حقيقة الظالم وأفعاله الإجرامية إلاّ وتجدهم يسارعون في الدفاع والرد والطعن أكثر مما يفعل أتباع الظالم نفسه.
أعود فأقول إنّ حالة الكآبة السياسيّة تنتهي لا محالة إلى ارتباك شديد في اتخاذ القرارات المناسبة، وأحيانًا تضاربها مع بدهيّات القيم والمصالح الوطنيّة، إضافة إلى نهاية محزنة وهي الشعور العميق الذي يُصاب به صاحب الكآبة من الهوان وقلة تقدير الذات الذي يظهر في بعض كلماته وتصرفاته، فصورة واحدة له عند لقاء الظالم المعتدي تُظهر لك بوضوح مقدار الانكسار النفسي والشعور بالدون والهوان ومن أراد التأكد فليرجع إلى صور عباس وجماعته مع الصهاينة المعتدين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى