ثقافة ومجتمععامقضايامقالاتمقالات تربوية

المبدأ القرآني لتأسيس الحوكمة الرشيدة، والإدارة المالية للأفراد والدول.

بقلم فضيلة الاستاذ الشيخ : هشام السنوسي

﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَمًا…﴾ المبدأ القرآني لتأسيس الحوكمة الرشيدة، والإدارة المالية للأفراد والدول.

​يخبرنا ربنا سبحانه وتعالى في الآية الكريمة بسورة النساء: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾، أنها ليست مجرد توجيه اجتماعي بإدارة أموال القُصّر والأفراد؛ بل هي في جوهرها تأسيس لفلسفة إدارة الموارد التي لا يصح أن تُمنح إلا للراشدين المؤهلين، وهنا نجد وصف النص الإلهي المال بأنه “قِيَمًا”، هو وصف بالغ الدلالة والوضوح؛ فالمال هو عصب الحياة الذي به تستقيم الدول، وتُحفظ كرامتها، وتُبنى مؤسساتها، إهداره أو سوء إدارته ليس مجرد خسارة مالية فحسب، بل هو هدم لقوام الدولة واقتصادها، وضياع لمدخراتها.
​الخطاب القرآني هنا يرجع نسبة المال إلى الجماعة الراشدة بقوله: “أَمْوَالَكُمُ”، حتى لو كان المال ملكاً فردياً، هذا المبدأ يُرسخ مفهوم المسؤولية المجتمعية المشتركة في حفظ الأصول المالية للدولة، وعندما نُسقط هذا المفهوم على إدارة الدولة، نجد أن الثروات والموازنات العامة هي أموال الأمّة بأسرها، وعليه، يجب أن تُدار بأعلى درجات الرشد والحكمة، ويُمنع أي شكل من أشكال “السفه” من التصرف فيها، والسياق القرآني هنا لا يعني بالضرورة القاصر، بل يمتد ليشمل كل من يفتقر إلى الرشد المالي والإداري، سواء كان فرداً مبذراً أو مسؤولاً مُهدرًا، فجوهر المشكلة في فساد إدارة الدولة المعاصرة اليوم يكمن في مخالفة هذا المبدأ الجوهري؛ وكثيراً ما تُسلم “أموال الأمة” إلى من يمكن وصفهم بـ “السفهاء الإداريين”. هؤلاء هم المسؤولون الذين يتولون المنصب القيادي دون كفاءة أو نزاهة، فبدلاً من أن يحقق المال “القِيم”، يتحول إلى مصدر للفساد والنهب والابتزاز وشراء الذمم، وأقلها لجلب مصالح موهومة ضيقة، يتجلى هذا السفه في صور متعددة، أبرزها: إقرار المشاريع الفاشلة أو الوهمية التي تُستنزف فيها الموازنات بأسعار مضخمة، أو التفريط في الأصول العامة والموارد الطبيعية، أو الدخول في دوامة الديون المفرطة مما يشكل عبئًا على الميزانية العامة، دون خطط استثمارية واضحة تحقق قيمة مضافة حقيقية للمجتمع، وتعود على المواطن بالنفع والفائدة، كالاشتغال بالقطاعات الخدمية والبنى التحتية وحلحلت المختنقات المالية، إن إطلاق يد هذا المسؤول غير المؤهل، دون رقابة فعالة ومحاسبة سريعة، هو التعبير العصري الدقيق عن “إيتاء السفهاء أموالكم”.
​وعلى هذا الأساس، يتأكد واجب الإدارة الراشدة في توجيه المال العام بإنصاف مطلق، ليس فقط لضمان العدالة الاجتماعية وتوفير الخدمات الأساسية للجميع، بل والأهم، لحماية هذا المال من أن يتحول إلى مغنم يُكدس في جيوب الفاسدين، أو يُهدر في حفلات الرقص والمجون، إن الرشد الإداري الحقيقي هو عملية متكاملة تجمع بصرامة بين محورين: الحماية المالية عبر رقابة صارمة لا تتهاون، والحماية الاجتماعية عبر توزيع عادل يحقق قوام الدولة، وبذلك، يصبح المعيار الإلهي لإدارة المال العام هو الحوكمة الرشيدة، حيث تُصبح المساءلة والنزاهة هما القاعدتين الأساسيتين لاختيار كل مسؤول، فإن استئمان غير “القوي الأمين”، أو تمكين غير “العليم الحفيظ” من مصائر القيادة الاقتصادية، يُعدّ خيانة صريحة للمبدأ القرآني القائل بأن المال هو “قِيَمًا” للحياة.
إن طريق محاربة الفساد يبدأ، وينتهي، بتطبيق هذا المبدأ: ألا يُسلم زمام الاقتصاد والموازنة العامة إلّا للراشدين الأكفاء الواعين بأولولية المرحلة، القادرين على صيانة أموال الدولة واستثمارها فضلاً عن حمايتها، وإبعادها تمامًا عن سفه المفسدين وطيش المبذرين.

Related Articles

Back to top button