عاممقالاتمقالات فكرية

المرض العضال

أ. محمد خليفة نصر

البحث عن الغرب في الإسلام هو المرض العضال الذي أصاب النخبة المسلمة بعد الفراغ الذي نشأ عن غياب مفكرين أفذاذ من نوع سيد قطب ومالك بن نبي. والمرض الذي اتحدث عنه هو نوع من العشى الذي يجعل مثقفي المسلمين لا يرون في الإسلام إلا ما يوافق هوى الغرب،أو ما يتطابق مع المنجز الغربي في القرون الأخيرة، أما ما يتجاوز فيه الإسلام الغرب فهم لا يرونه، أو لم يروه بعد. ونظرًا لمحدودية الوقت ومساحة الحديث سأقتصر على مثالين.

المثال الأول؛ احتفاء المثقف المسلم بما عرف في التاريخ الإسلامي بالصحيفة أو “صحيفة المدينة”، وعدم رؤية البيعة التي كانت الأساس الذي قامت عليه المدينة نفسها. البيعة أكثر أهمية من الصحيفة، لكن المسلم لم يرَ لها أية أهمية بعد، لعدم وجود ما يقابلها في الحضارة الغربية.

المثال الثاني؛ هو المنجز الفكري لابن رشد الذي لا يرى فيه المسلم سوى ما يراه الغرب، وهو تقرير ما بين الفلسفة والشريعة من الاتصال، أي اكتشاف الغرب في الإسلام وعدم رؤية ما عدا ذلك في منجز ابن رشد، بالرغم من أنه لا يقل أهمية عن الاتصال بين الحكمة والشريعة، وكما سنرى لاحقًا.

أولاً. الاحتفاء بالصحيفة وتجاهل البيعة.

أول دولة تأسست بعقد هي دولة “المدينة المنورة”. والعقد الذي تأسست عليه المدينة أسمه البيعة التي ابرمت بين الرسول عليه الصلاة والسلام والانصار. وهناك أكثر من دليل على أنالبيعة أكثر أهمية من “الصحيفة:

الدليل الأول؛ هو أن الله كان طرفًا في البيعة: “إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم”. الله كان طرفًا في هذا العقد لما له من أهمية، ولعدم أهمية الصحيفة مقارنة بالبيعة لم يأتي القرآن على ذكرها إلا بشكل غير مباشر، وفي معرض عدم التزام اليهود بها.

والدليل الثاني؛ هو إطلاق اسم “مدينة الرسول” على الواحة التي ظلت تسمى “يثرب” حتى هجرة النبي عليه الصلاة والسلام إليها وتأسيسه مدينة-دولة ذات هوية إسلامية فيها. والمؤشر على أهمية هذا التحول هو قول النبي عليه الصلاة والسلام: “من قال عن المدينة يثرب فليستغفر الله”. فيثرب اسمها في الجاهلية والمدينة اسمها في الإسلام، الذي قضى على الجاهلية.

الذين يحتفون بالصحيفة لأنها شبيهة الدستور في الغرب عليهم التوقف عند عدم ذكرها في القرآن لأن أهميتها وقتية مقارنة بالبيعة التي لا تكون الدولة إسلامية بدونها. كما يقع على الذين يحتفون بالصحيفة ويهملون البيعة أن يدركوا أن نظرية “العقد الاجتماعي” هي في الواقع نسخة كافرة من البيعة، وفرع من كفر أوربا بمحمد وما أنزل على محمد. فعندما تأسست المدينة-الدولة على البيعة ما زال أمام اوربا ألف سنة حتى تكتشف نظرية العقد الاجتماعي.

وفي القرن الرابع عشر عرف ابن خلدون البيعة على انها: “العهد على الطاعة؛ كان المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين، لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره. وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيدا للعهد؛ فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري.

هذا العقد الذي عرفه ابن خلدون حسب التجربة الإسلامية تحول عند توماس هوبس الى عقد افتراضي يبرم عندما يقول فرد من أفراد المجتمع للآخر: “أنا اتنازل عن حقي في حكم نفسي لهذا الإنسان، أو لهذه الجمعية من الناس (البرلمان) شريطة أن تتنازل أنت بالمثل عن حقوقك، وتأذن له بكل التصرفات بذات الطريقة“! وهذا العقد يبرم لمرة واحدة ولا يجوز نقضه أو تعديله لأنه يعطي سلطة الدولة المطلقة الأبدية للملك. هذا العقد لا يبرم في قطيعة مع الله فقط، بل ينتج عنه إله ثان يعوض الإله الأول وهو المسيح الذي كانت تمثله الكنيسةقبل ظهور نظرية العقد الاجتماعي التي جعلت من الدولة إلهًا ثانيًا!

وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإيي فارهبون. سبحان الله العظيم؛ لقد سمى هوبس نظرية الدولة ليفايثان لإدخال الرهبة في قلوب افراد المجتمع حتى لا يتحدوا الدولة لأنها ليفايثان أو الإله الثاني الذي لا قبل لفرد بتحديه!

المسلم يرهب الله والمشرك يرهب الدولة. وإعادة الأمور إلى نصابها تقتضي القطع مع الفكر الغربي الذي يجعل مع الله آلهة أخرى، ثم التأسيس على الفهم الذي كان عند ابن رشد لمّا عالج قضية الفلسفة وأثرها المحدود في الفضاء العالمي مقارنة بشمول الوحي وتطوره حتى ختامه،وهو القرآن. المقترح إذًا هو العودة بالبحث العلمي إلى معجمنا الحضاري كما أوصى عبد الوهاب المسيري، أو كما سنرى الآن في سياق المسكوت عنه في أفكار ابن رشد.

ثانيًا. ابن رشد يتجاوز الفلسفة.

أهم منجز لابن رشد هو رؤيته لسمو الشريعة المستنبطة بالعقل والوحي على الشرائع المستنبطة بالعقل وحده، والتي تسمى هذه الأيام “القانون الوضعي”. ويقوم هذا المنجز لابن رشد على مقدمة مفادها أن العلم يتقدم بالدين، والمجتمع كذلك، وأن الحكماء أو الفلاسفة يقبلون شريعة السماء ويُقبلون عليها عندما تصلهم. ومن هنا كان الدين تقدم للعلم والعمل، ومن هنا جاءت تبعية الحكمة للوحي، وكما سنرى تفصيلاً الآن.

1) كل نبي حكيم وليس العكس.

يقول ابن رشد: “لم تزل الحكمة أمرًا موجودًا في أهل الوحي وهم الأنبياءعليهم السلام، لذلك أصدق قضية هي أن: كل نبي حكيم وليس كل حكيم نبي“. ويضيف ابن رشد أن الفعل الصادر عن الصفة التي سمي بها النبي نبيًا تتكون من شقين؛ 1) الإعلام بالغيوب. 2) وضع الشرائع الموافقة للحق، والمفيدة من الأعمال ما فيه سعادة جميع الخلق. مهم جدًا أن تشريع الأنبياء وسنهم لسنن من الاعمال المفيدة يفيد كل البشر.

ومن ينظر إلى استفادة الحضارة الغربية من الحضارة الإسلامية يدرك كيف يكون في تشريع السماء فائدة لكل البشر، وإن صدوا عنه أو صُدوا عنه كما في حالة أوربا مع الإسلام.
لقد فرضت الحضارة الإسلامية العقلانية على الحضارة الأوربية وعلمتها العلوم التجريبية. فبينما كانت اوربا غارقت في جهلها جاءتها الحضارة الإسلامية من طريق الاتصال بين العقل والنقل والعلم والعمل كما مثلته الحضارة الإسلامية التي حضرت أوربا بفلسفة ابن رشد الذي أعاد لها قمة العقلانية الإغريقية متمثلة في فلسفة أرسطو.

ولمّا كان الإسلام هو “سبيل الله” وكانت وظيفة الكنيسة “الصد عن سبيل الله” أخذت الكنيسة -التي كانت في حينها مؤسسة العلم والمعرفة في أوربا- العقلانية وردت القرآن، فتحولت بذلك العقلانية من مسلمة في الحضارة الإسلامية إلى كافرة بمحمد وما أنزل على محمد في أوربا.

وما ساعد الكنيسة على صد أوربا عن سبيل الله أن الحضارة الإسلامية كما مثلها ابن رشد في حينها قد استوعبت العقلانية الاغريقية (الفلسفة) مع الكثير من الصعوبات والقلاقل. فلما استعادت الكنيسة التراث الاغريقي، وارسطو بالذات، من فلسفة ابن رشد عادت اوربا إلى الوراء، إلى ما قبل الوحي حيث العقلانية مازالت وثنية. لقد تصورت الكنيسة أن بإمكانها تنصير الفلسفة فإذا بها أسيرة الفلسفة الوثنية، ارسطو بعد افلاطون.

وسأكتفي هنا بتقرير أن كفر العقلانية الأوربية التي تحولت عقلانية عالمية، متفرع عن كفر أوربا بمحمد وما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم. بكلمات أخرى: أوربا أخذت منا العقلانية مسلمة في القرن الثالث عشر وأعادتها لنا كافرة في القرن العشرين. وانقلاب العقلانية من مسلمة إلى كافرة الذي تطور عبر سبعة قرونمبحث ليس هنا مكانه، وسأعالجه في سانحة أخرى.

2) سمو الشريعة على القانون الوضعي.

يقرر ابن رشد إن “الشرائع هي الصنائع الضرورية المدنية التي تأخذ مبادئها من العقل والشرع“. وفي هذا السياق يعلن ابن رشد سمو الشريعة التي تجمع بين الوحي والعقل على ما سواها من الشرائع قائلاً: ” كل شريعة كانت بالوحي فالعقل يخالطها. ومن سلم أنه يمكن أن تكون ها هنا شريعة بالعقل وحده فإنه يلزم ضرورة أن تكون أنقص من الشرائع التي استنبطت بالعقل والوحي.”

لمثل هذه الأسباب أسلم الحكماء الذين كانوا يعلمون الناس بالإسكندرية لما وصلتهم شريعة الإسلام، وتنصر الحكماء الذين كانوا ببلاد الروم لما وصلتهم شريعة عيسى عليه السلام.

ولما كان الإسلام منهج تفكير عند المفكر المسلم؛ ربط ابن رشد قضية التشريع بالفضيلة من خلال العبادات، مبينًا على سبيل المثال كيف كانت الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر أكثر تقدمًا واتم عند المسلمين منها عند الأمم السابقة، وأن الناشئين عليها أتم فضيلة من الناشئين على غيرها. وفي هذا السياق يقرر إنه “لا يُشك في أن الصلوات تنهى عن الفحشاء والمنكر كما قال تعالى. وإن الصلاة الموضوعة في هذه الشريعة يوجد فيها هذا الفعل أتم منه في سائر الصلوات الموضوعة في سائر الشرائع، وذلك بما شرط فيه من الطهارة ومن التروك، أعني ترك الأفعال والأقوال المفسدة لها“.

ويؤمن ابن رشد مرة أخرى بأن “مبادئ العمل يجب أن تؤخذ تقليدًا… [و] أن الحكماء بأجمعهم يرون في الشرائع هذا الرأي، أعني أن يتقلد من الأنبياء والواضعين مبادئ العمل والسنن المشروعة في ملة ملة. والممدوح عندهم من هذه المبادئ الضرورية هو ما كان منها أحث للجمهور على الأعمال الفاضلة، حتى يكون الناشئون عليها أتم فضيلة من الناشئين على غيرها…“!

وبالإمكان إضافة أن من مميزات الشريعة أن ثوابتها من عند الله، وقد جمعها حديث واحد عن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول فيه: “إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها.”

يمكن إذن تقسيم محل الحديث إلى أربع أجزاء:1) الفرائض؛ 2) الحدود؛ 3) المحرمات؛ 4) المسكوت عنه. الثلاثة الأولى هي الثوابت التي تميز الإسلام عن غيره من الأنظمة (الشيوعية والليبرالية)؛ والرابعة هي منطقة الاجتهاد، أو ما يسمى “الدنيوي” في مقابل “الديني”، أو “المصالح المرسلة” كما في لغة الأصوليين، أي المصالح التي تُركت لتنظيم المسلمين حسب مقتضيات الزمان والمكان. فهذه الأخيرة هي منطقة المتغيرات التي تقابل منطقة الثوابت.

في غياب الثوابت الإلهية أصبحت الحرية في الغرب فوضى وفساد، لأن الفرق بين الحرية والفوضى هو أن الحرية لها حدود، والفوضى لا حدود لها. أصبحت الحرية في الغرب خارج حدود الأخلاق النبيلة وتبعًا لأهواء البشر وشذوذهم. وقد أعلن روسو قديمًا أنه عجز عن أن يجد تصورًا لنظام حكم يضع القانون فوق البشر. وهذا ما يمثل أوضح صورة لضرورة أن تكون الثوابت من مصدر إلهي. مثل هذه الثوابت تضع مكارم الأخلاق في قمة القيم، ويكون خضوع البشر لها طواعية وعلى النحو الذي بينه الحديث الشريف السالف بيانه.

هذا موجز عن أفكار ابن رشد التي يتجاهلها أو يغفل عنها أبناء المسلمين لأنها غير مطلوبة في الغرب أو لا تقابل المنجز الغربي في آخر صوره بل تتجاوزه في أكثر من نقطة بالرغم من أنها متقدمة عليه زمانيًا. وما سلف يسري على ما كتبه أبن رشد في الطب ومازال في المكتبة ينتظر من يزيل عنه غبار الإهمال والنسيان. وما حديث المكتبة هذا إلا تذكرة للعالم وتبصرة للمتعلمبخصوص مرض من الأمراض التي علينا العمل على التخلص منها، وعلى الله قصد السبيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى